في طابور الخبز اليومي الذي أصبح مؤخَّراً من أهم فقرات برنامجنا اليومي للمُعاناة ، إستطعتُ ومعي الكثيرين تحويلهُ من نشاط مُعبِّر عن البؤس والشقاء والإحباط ، إلى نشاط يضِج بالحيوية والمُتعة والتطلُّع إلى ما هو أفضل ، وبذلك أصبحت النقاشات والتعليقات والمحاضرات الطويلة والقصيرة والقفشات والآراء الغريبة والعادية في مجالات عديدة أهمها السياسة (هوايةً) يتسابق على المشاركة فيها الكثير من (المطوبرين) في صفوف الخبز التي أصبحت واحدة من سمات حياتنا اليومية الإعتيادية ، بالقدر الذي يجعلنا منذ الآن نحمل (هم) تلاشيها وعدم وجودها في حياتنا في حال تحققت المعجزة وإستطاعات وزارة التجارة (بلا وعودٍ تدخلها في حرج) أن تجعل سلعة الخبز واحدة من السلع المتوفرة والمُتاحة في كل زمان ومكان على الأقل العاصمة والمدن الولائية الكُبرى.
في ذات صفٍ مسائي للخبز ، كان محوَّر النقاش حول إستقبال البُرهان لمجموعة من قادة بعض الأحزاب المتحالفة مع حكومة المؤتمر الوطني قبل سقوطها ، تحت مُسمى (قوى البرنامج الوطني) ويطرحون برنامجاً إنتقالياً بديلاً للوثيقة الدستورية ، وبعد إسهاب الكثيرين تعبيراً عن رؤيتهم حول الموضوع ما بين معارض ومؤيِّد ، كان بين الجميع ثمة شاب في مقتبل العُمر ، ربما لم يتجاوز العشرين يستمع إلينا بـ (همٍ ) وإهتمام ولا يُدلي برأي ، غير أنهُ في اللحظات الأخيرة فتح الله عليه بهذا التعليق الذي أذهلني والجميع (والله لقد كرهنا أيي حاجة ينتهي عنوانها بكلمة وطني وقومي) ، ضحك الذين كانوا من حولهُ ضحك المُستغربين ، لكني لما إسترجعت معاني ومضامين فكرتهُ التي بدت لي واضحة وتلقائية ، تبدَّا لي بالفعل أن تكرار الشعارات والواجهات المُبطَّنة بمصطلحات مقدَّسة ، قُصد منها في الأصل مُجرَّد التضليل لإسدال الستار على عيوبها وتجاوزاتها وفسادها ، ثم تبريرها وإخفائها عبر(الحماية) بسلاحٍ فتَّاكٍ وفي ذات الوقت مُبتذل يتمثَّل في نعتها بالقداسة عبر تذييل عناوينها ومُسمياتها بكلمة (الوطني) أو (القومي) لتكون بمثابة (الواقي) المبدئي من الإتهامات والشكوك.
المؤتمر الوطني ، والمجلس الوطني ، والهيئة الوطنية والمجلس القومي والهيئة القومية و.. ألخ ، كانت حتى زمانِ قريب إشارات تحذير للمُتطَّفلين والمراقبين والمًُراجعين و(المُعارضين) تشبه اللافتات التي توضع قُرب الحاميات العسكرية (ممنوع الإقتراب والتصوير) ، أما بالنسبة لشبابنا فكل تلك المؤسسات التي تنتهي عناوينها بكلمات (مُقدَّسة) مثل الإسلامية ، أو الوطنية ، أو القومية ، تبرمجت في عقولهم على ما يُشير إلى وجود (شيءٍ ما) يُزمع إخفاؤه ، أو على الأقل هي مثار توجُّسٍ وريبةٍ وإتهام حتى تثبت البراءة ، هذا من هولِ وكُثرة ما عاصروهُ وخبروهُ في عهد الإنقاذ البائد من إستغلال للشعارات والمُقدَّسات على مستواها الشكلي واللفظي لتمرير أكثر عمليات الفساد والتعدي على الحقوق العامة والخاصة ، بالفعل نحن في أمَس الحاجة لإعادة زرع الثقة في نفوس شبابنا تجاه مؤسساتنا العمومية ومُسمياتها المُعبِّرة عن قداسة الوطن وفضيلة الوطنية ، وقداسة وحدة التراب السوداني وفضيلة الإنتماء إلى القومية ، وقداسة الدين في حياة الفرد وفضيلة الإنتماء إلى العقيدة الإسلامية الحقة المُنزَّهة من التطرُّف والعُنف ورفض الآخر وحرمانهُ من حقوقهِ الأساسية ، إسلام الوسطية المُنتمي لكل القيَّم والأخلاقيات الإنسانية التي لم يختلف عليها سائر البشر.