(جريدة الخرطوم ١٣ سبتمبر ١٩٨٨م)
في مثل هذه الأيام من سبتمبر ١٩٨٨ كانت الخرطوم تغرق تحت الماء. وكان أول بشائر الإسعاف جسراً جوياً وبحرياً سعودياً امتد رحبا. وانفعلت، والأمة مدروكة، بهذه الأريحية وكتبت الكلمة أدناه بجريدة الخرطوم. وما تغير شيء. السعودية نفسها في طليعة ركب الإغاثة اليوم. وأعيد نشر الكلمة في ذكراها الثانية والثلاثين عرفاناً قديماً وجديداً لخادم الحرمين وشعبه حفظهم الله.
هذه هي طائرة سعودية أخري في سماء الخرطوم المغرورق بالمطر. وهذه باخرة سعودية تلثم ثغر الساحل السوداني المخنوق بعبرات المياه. إن الجسر الإسعافي السعودي ندى في الندي. إنه أريحية ساطعة.
تربيت سياسياً على سوء ظن عميق بالنظام السياسي السعودي. وتربيت اجتماعياً على تقديم التغيير الاجتماعي على محسنات البر وأخلاقيات الإحسان. لكن الأريحية السعودية المحلقة في سمائنا المبتلة أخذتني أخذاً من قناعاتي وأسلمتني إلى عرفان كبير بفضل الدولة والشعب السعوديين. وهو استسلام محبب إلى النفس. ولا تثريب فقد رباني الشعر العربي (والشعبي السوداني منه على وجه الخصوص) على ضعف شديد نحو تجليات الإحسان وعلى العرفان لها.
ربما قال قائل إن السعودية بغوثها إنما تنقذ نظاماً سياسياً في السودان هي عنه راضية، أو أنها تريد دعم منظمات وكيلة لها في السودان. وهذه اجتهادات سياسية قد يبررها أن السعودية قد ظلت تدفع فاتورة نظام ثقيل الظل كنظام نميري، وتعين بأشكال مختلفة منظمات سياسية ودينية تزعم رابطة مودة وروح بها.
ولكننا شعب فقير جداً. وككل الفقراء نريد أن نصدق أن هناك معان في الدنيا فوق الاستخدامات البسيطة. نريد أن نصدق أن رابطة الإسلام والعروبة رموز تُستنفر في الخطوب المدلهمة وتلهم. ونريد أن نصدق أن الأريحية السعودية مؤشر على ذلك الظن الحسن.
مهما يكن فنحن ممنونون جداً لجود السعودية. ونأمل أن يمكنها وجودها في ساحة الكارثة السودانية أن تقرأ واقعنا الفقير واحتمالاته باستقلال عن تأويل وكلائها المعتمدين. وهم الوكلاء الذين زكوا أنفسهم لها كصمام أمان من سقوط السودان في براثن الشيوعية. وهذه تزكية خاطئة لأنها تسيء تفسير رغبة اجتماعية سودانية جدية وتحملها محمل التردي في الشيوعية. وواضح أنه لا مناص من هذه التحولات الاجتماعية ليستقيم وطننا الخروج من مطب الكارثة.
وقد زكت جماعات أخرى نفسها للسعودية وكلاء معتمدين لنشر الإسلام والعربية. وهي قناعات سعودية مشروعة. وقد ارتكبت هذه الجماعات بقصر نظرها ورغبتها في التبليغ المضخم المفخم عن دورها أخطاء بشعة دفعت بوطننا ٌإلى حافة الشتات.
نأمل نحن المسلمين الفقراء أن يؤدي اهتمام خادم الحرمين وشعبه بإسعافنا من مصابنا مرة بعد مرة أن يتعرفا على نص فقرنا بصورة مباشرة بعيداً عن تأويلات “ناس دفن الليل اب كراعاً بره”. وربما امتد عشمنا لكي يتسع صدر السعودية إلي خطاب معارضي وكلائهم المعتمدين عن فقر السودان وهويته بمصطلح ربما لا يستسيغونه.
كانت صورة السعودية عندنا أنها بلد غني وحسب. وليس بغير معنى تسمية أحياء الموسرين في الخرطوم بأسماء ك “الطائف” و” الرياض”. وجاء جسر الإغاثة السعودي بنبض إسلامي عربي أبرز معاني تداعي الجسد الواحد يشد بعضه بعضا. وسنرنو إلى أن يتطور صندوق الإغاثة الذي افتتحه خادم الحرمين إلى مؤسسة سعودية سودانية للإسكان الشعبي ينتفع منها المنكوبون في أحياء الحاج يوسف والدروشاب والتكلة وأم ضريوه وبانتيو ومايو وفي حلال وأحياء أخرى في الوطن. ونأمل أن نؤرخ لهذه الصورة الجديدة للسعودية بإطلاق أسماء مدن أخرى للملكة على أحياء المعلمين الله المستفيدة من هذا الإسكان الشعبي.
وبهذا التفاؤل الجم ستتابع عيون شعبنا بأسره سرب الأريحية السعودية المعلق في سماء خريفنا الجهم بعرفان صاف وود عميق.
IbrahimA@missouri.edu