من حق الكثير من المعارضين والناقدين لأداء حكومة الفترة الإنتقالية أو (حكومة حمدوك) كما يحلو للكثيرين ، أن يجأروا بالشكوى والشعور بالظلم من إتهامهم بالإنتماء إلى فلول النظام البائد ، أو بلُغةِ الشارع العامية أنهم (كيزان) ، وذلك من وجهة نظري لسببين ، الأول أن المنهج الديموقراطي تنبني أصولهُ الفكرية على تمكين الآخر من إعلان رأيه بلا قيدٍ ولا شرطٍ خصوصاً إذا كان مُعارضاً وخارج السُلطة ، والسبب الثاني أن الواقع المنطقي لا يتوافق مع مبدأ (الثنائية) في تصنيف الآراء ، إذ لابُد أن يظهر في زمانٍ ما ومكانٍ ما رأيٌ ثالث ، في أغلب الأحيان لا يمكن الجزم بتصنيفهُ لصالح أحد التيارين وإن تطابقت آراءهُ معهُ وكانا على مصاف مصلحةٍ واحدة ، فلكُلٍ ليلاهُ التي يُغني عليها.
فما الذي يمنع أن يُعارض أحدهم برنامج الحكومة الإنتقالية وينتقد أداءها وشخوصها وهو ليس من فلول الإنقاذ وليس كوزاً ولا يحزنون ؟ ، فالحياة مليئة بالتناقضات والتباعدات في الأشكال والمضامين في كل نطاق مهما بلغت مكانتهُ وقداستهُ في نفس هذا أو ذاك من البشر ، وليس كل الناس على شاكلةٍ واحدة ، وأنا من المؤمنين بأن الكثير من معارضي الحكومة الإنتقالية ليسوا كيزاناً ولا ينتمون إلى فلول النظام البائد ولكن تدفعهم إلى ذلك أسباب عديدة ، منها الحُب (الفطري) لفكرة الإعتراض والنقد رغبةً في التفرُّد والإختلاف ، ومنها إنقطاع المصالح والأرزاق التي كانت تحركها عجلة فساد الإنقاذ ، فلما تبدّت معالم مؤسسية الدولية وتقنين الإجراءات والنشاطات لم يكن لهم بُدٌ من المقاومة ،
ومنها ما له علاقة بمستوى الوعي السياسي ومحدودية القُدرة على تلمُّس الرؤى في مداها البعيد ، خصوصاً إذا كانت الضائقة المعيشية وتدهور قيمة الجنيه السوداني واحدة من قياساتهِ الأساسية لأداء الحكومة ، ومن أسبابهم أيضاً إنتماءهم إلى مناهج فكرية وسياسية متوافقة مع التصوُّر الكُلي لمنهج الإخوان المسلمين ومُخطَّطهم المتعلِّق بإدارة السودان ، ومنهم أيضاً من يعاني من تطرُّف وشذوذ في منهجية الوعي السياسي ومن أمثلتهم أنصار المايوية والداعشية ومن يعتقدون أن السودان يمكن أن يستدل طريقه نحو النماء بواسطة حكم عسكري متسلِّط ورشيد في ذات الوقت ، والأسباب كثيرة ومُتعدِّدة ، لكن ما يهمنا أنها تُخرجهم في نهاية الأمر من دائرة الإنتماء للفلول أو الكيزان (من حيثُ الولاء الفكري والإصطفاف التنظيمي).
أولئك المعارضين لا يمكن أن نحاسبهم على شي غير إعلانهم مناهضة ثورة ديسمبر المجيدة ، لأن الوقوف في تضاد مع إرادة الجماهير التي ضحت بأرواح أبنائها وبناتها فداءاً للحرية والعدالة والمساواة ، هو خيانةٌ عُظمى لا تقبل التأويل ولا التسويف ، عليهم أن يثبتوا قولاً وفعلاً وقبل كل شيء إنتماءهم لهذه الثورة التي إنتصرت بإسم شعب بأكمله ، دون إنتماءٍ لحزبٍ ولا حلفٍ ولا دعائم دولية ، إتفق حولها كل من كان خارج حظيرة الإنقاذ البائدة ،
غنياً كان أم فقيراً متعلٍّماً أوأُميّاً صغيراً أو كبيرا ، لا يجمع بينهم سوى الشعور بالضيم والظلم والتغريب في أوطانهم وآمالهم في الإنعتاق ، هذه الثورة لم تندلع ليتفٍّق الجميع على كل شيء ، لكنها إندلعت لنُعالج خلافاتنا عبر القانون والمساواة والعدالة ، لا تتهموا كل من إنتقد الحكومة الإنتقالية وناصبها العداء فهي في أحيان كثيرة تستحق النقد القاسي والتقويم الجريء ، ولكن كونوا دائماً على إستعداد لمُقارعة كل من يُعادي الثائرين ضد الظلم والإضطهاد والفساد والإستعلاء بإسم الدين ، إن كان كوزاً أو لم يكُن.