يوم السبت 25 أغسطس 2001م انطلقت بنا سيارة (اللاندكروزر) ترتجُّ وتئن على الطريق الصخري الملتوي. وجهتنا دنقلا التي تبعد نحو 125 كيلا بعد قضاء يومين مع جزر موقة ونارنارتي وآرتمري. ودَّعت الأخ عبد الشافع خبيري حيث قضيت معه بعض الوقت في (المنزلة) أمام داره. والمنزلة عريش يرتفع فوق أربعة أعمدة، يدخله الضيف دونما حاجة لاستئذان ويجلس فيه، قبل أن يأتي مضيِّفه. وفي حال غيابه، هناك من يقوم مقامه في الاستقبال وكرم الضيافة.
وصلت بعد ثلاث ساعات متعبًا والشمس تؤذن بالمغيب، وقبل أن أستريح جاء من يبلغني أن جزيرة (أرنَتَّى) في محلية عبري قد غمرتها المياه.
حدث ذلك مساء البارحة. فتوجَّب عليَّ العودة من حيث أتيت… والرحلة أطول هذه المرَّة إلى عبري حاضرة السِكُّوت.
كان الأخ عبد الشافع خبيري يتأهب للنوم عندما طرقت عليه الباب، وكنت فارقته قبل ساعات فقط. استقبلني بطريقته المرحة: “انت كمان يا أستاذ مالك بقيت غاير علينا”؟ قالها بالنوبية فجاءت أوقع في المرح بل السخرية!
انضم إلى ركبنا الأستاذ يوسف سري وهو الخبير بالطرق، وفوق ذلك أشعر في رفقته بالاطمئنان والراحة. كانت ليلة مظلمة في الأسبوع الأول من شهر جمادى عندما توجهنا في اتجاه الغرب صوب سهل (كوكا). هذه الأرض المنبسطة على امتداد البصر، خالية من الشجر والحجر، وحين تجتازها نهارًا لا ترى إلا بقايا العظام التي تركتها جمال (الهندي) وهي قوافل الإبل التي ترحَّل عبر هذا الطريق إلى مصر.
يبدو أن الأستاذ يوسف سري أراد أن يعطينا درسًا، لكن بتكلفة عالية… قال للسائق: امضِ في هذا الاتجاه، فاعترض السائق أن الوجهة التي أشار عليها ليست صحيحة. تكرر التوجيه مرة ثانية وثالثة، وفي الآخر كفَّ دليلنا عن تقديم النصح. بعد ساعات عدة من السير المتواصل، أحسسنا بأن هذا الوقت كان كافيًا لأن نجتاز سهل كوكا ونصل إلى قرية (عقولة). سألت الأستاذ يوسف لكنه تذرَّع بالصمت. ولما أسفر الصباح وجدنا أنفسنا في نفس المكان الذي انطلقنا منه. بدت أمامنا آثارات (سيسة) مع خيوط الفجر الأولى، لندرك أن القوم (لم يحمَدوا السُّرى عند الصباح)!
لقد ظل شعبنا السوداني منذ نيل الاستقلال يقوده في الظلام قادة ما عرفوا وجهتهم، ولا أذعنوا لمن يهديهم سبيل الرشاد، فكانت المحصلة (محلك سر)!
كانت مناطق الولاية كافة خالية من الطرق المعبَّدة والاتصالات والكهرباء. في السنوات العشرين الأخيرة شهدنا منجزات ملموسة في الطرق على امتداد ضفتي النهر شرقًا وغربًا، والكهرباء التي عمَّت جميع القرى والاتصالات.
وصلنا (ساقية العبد) قبالة مدينة عبري في تمام الساعة العاشرة، وأقلتنا العبَّارة أولا لتفقد جزء من المتأثرين بالفيضان في أماكن إيوائهم المؤقتة بمدارس عبري، لأن بعضهم آوتهم بيوت الجزيرة في الناحية الشمالية التي سلمت من غمر المياه.
هبَّت القرى المجاورة في نجدة عاجلة يقدمون ما عندهم.
بعد ذلك يمَّمنا وجوهنا شطر الجزيرة الغارقة آلمني منظر المسجد والمدرسة وكثير من البيوت تحت الماء. ولكن أكثر المشاهد تأثيرًا هو مشهد رجل لم يتمالك نفسه من البكاء. شرعنا على الفور في حصر الخسائر وتعداد المتأثرين.
ودخلنا في تجهيز احتياجات عاجلة انتظارًا لوصول والي الولاية الأستاذ المعتصم عبد الرحيم الذي استغرق وصوله نحو عشر ساعات. كانت مجاري السيول قد امتلأت بمياه الفيضان في الضفة الشرقية، وهي أربعة خيران في شرق المحس في سبو وأبوصارى وسعدنفنتي وإرو وكويكا.
(في الحلقة التالية: على ضفاف بحيرة النوبة).