ليس من شيمتي التعقيب على ما يُدلي به الأفراد الناشطون في حقل السياسة، إلا فيما ندر. وذلك لقناعتي أن لدينا في ثقافتنا السودانية إشكالية بنيوية كبيرة جداً فيما يتعلق بإدارة حوار مُثمر يجنح نحو العقلانية، ويتسامى عن سجالات المنتصر والمهزوم، ويفضي إلى نتائج إيجابية مفيدة. وعوضاً عن ذلك فنحن بارعون في ثقافة كسر العظام. غير أنني سوف أغض الطرف عن المنهج المذكور في هذا المقال، لأعلق على حديث هام أدلى به الدكتور عبد العزيز نور عُشر في حواره مع قناة أمدرمان الفضائية. ولعل ما دفعني وشجعني على هذه الخطوة توسمي فيه قبول الرأي الآخر، ليس بناءً على ما لمسته من خلال حديثه فحسب، وإنما استناداً على سيرته النضالية الثرة التي يحق له أن يفتخر بها أيما فخر.
الدكتور عبد العزيز نور عشر قيادي يُشار إليه بالبنان في حركة العدل والمساواة. وكلنا يعلم حجم التضحية التي قدمها على المستوى الشخصي بعد اعتقاله عُقب عملية (الذراع الطويلة) والتي قامت بها الحركة في مايو من العام 2008م ودخلت بموجبها مدينة أمدرمان حتى مشارف العاصمة حيث اقتربت من القصر الذي كان يسكنه المخلوع. وبعد فشل العملية سلك طريق النجاة بجلده متخفياً إلى أن وصل شرق السودان فوقع أسيراً في يد جلاوزة نظام الأبالسة. ثمَّ حُكم عليه بالإعدام وخُفف لحكم مؤبد لاحقاً. ثمَّ أُفرج عنه في العام 2017م في إطار ما كان يسميه النظام المندحر افتراءً (العفو الرئاسي) تماثلاً بصفات المولى عزَّ وجل في أن المذكور قادر على أن يحيي من يشاء ويميت من يشاء، وهكذا هم الديكتاتوريون!
تعرَّض الدكتور عشر لصنوف من التعذيب البدني والمعنوي، أقساه أنه كان رهين المحبسين، فعلاوة على السجن فقد ظلَّ يرسف في القيد طيلة تلك السنوات العشر، وبالطبع لا يعرف القيد إلا من يكابده. لكن إيمانه بعدالة قضيته من جهة، وقناعته أن ليل الظلم قصير مهما طال من جهة أخرى، خففا عنه رهق المحنة ووعثاء السجن وجحيمه. وكان الدكتور عشر قد هزم كل هذه المثبطات بإنجاز الدكتوراة من خلف القضبان. وعليه لم يخالجني أدنى شك في أن رجلاً رزح في ذلك الجحيم وأُتونه، سيكون الأحرص على الحرية من المتنطعين، والأقدر على حمايتها من المفسدين، وأكثرهم حذراً من الوقوع في براثن أبغض الحلال، وهذا ما سيرد ذكره لاحقاً.
امتد ذلك اللقاء لما يناهز الساعة ونصف الساعة، وقد بدد حديثه السلس الرفيع الملالة والسآمة التي يمكن أن تعتري المشاهد. كما استطاع أن يتجنب بحذاقة محاولات مقدم البرنامج جره لمعارك جانبية مع آخرين لشيء في خويصة نفسه. هذا وذاك عضدا من قناعتي وأنا اتابع مجريات الحوار، أن هذا الرجل يصلح لأن يتبوأ منصباً رفيعاً في أي من السلطتين السيادية والتنفيذية. ولكن من قبل أن تكتمل شفاهة رغبتي تلك، فاجأني في ختام اللقاء بزهده عند المغنم. إذ قال رداً على سؤال للمحاور أنه لن يشارك في أي موقع يُعرض عليه بعد توقيع اتفاقيات السلام. حينها سما قدره وارتفع في ناظري، لا غرو وقد ضرب مثلاً للمتكالبين على السلطة!
بيد أن هذا كله لم يحل بيني وبين أن اختلف معه في بعض ما ورد في حديثه من نقاط ينبغي أن توضع تحت المجهر، لا سيما، وقد رسمت ظلالاً رمادية لا تتسق مع بهاء الصورة الزاهية التي جرى سردها أعلاه، بأمل أن تكون محض عثرة أو كبوة جواد، إن كان لكل جواد كبوة كما يقولون.
أولاً: لقد أسرف الدكتور عشر في نقد قوى الحرية والتغيير، وكاد أن يجعل منها شيطاناً يُرجم. ولم يجد حرجاً في المناداة بتفكيكها (صامولة صامولة) ثمَّ مضى غير آبهٍ بحجارة السجيل التي ألقاها على رؤوس مشاهديه، ونادى بضرورة حل كل مؤسسات الفترة الانتقالية وإعادة هيكلة جهاز الدولة الراهن. وهو حديث شمسوني شاء به قائله هد المعبد على الجميع. ولا أدري كيف فات عليه أن هذا عين التفكير الرغائبي الذي أغرق فيه خفافيش الظلام أنفسهم. بل ظلوا يسعون جاهدين منذ اندحار حكمهم البغيض إلى وضع المتاريس أمام الثورة وحكومتها. بالطبع نتفق معه في أن هناك من عمل على اختطاف الثورة، ونتفق معه كذلك في أن هذا الكيان خالطه كثيرٌ من الأخطاء منذ توقيع الوثيقة الدستورية. ولكن نخالفه الرأي في أن يكون (الحل في الحل) ذلك في تقديري ينم عن استعلاء لا مبرر له، خاصة وأن انفراط هذا العقد النضيد كفيل بقلب الطاولة على الجميع بما فيهم العدل والمساواة، والارتداد بالثورة إلى الوراء. وهي أمنية المتربصين من الفلول كما تعلمون. وبدلاً عن ذلك فإن بعض الجهد يكفي لإصلاح ما أفسده العطار والثورة كفيلة بإعادة الأمور إلى نصابها. وتبعاً لذلك يمكن أن نضمن عبوراً آمناً للحكومة الانتقالية.
ثانياً: سأله المُحاور سؤالاً خبيثاً عن رأيه حول ما سماه (تباين في الآراء بين القوى السياسة) في عزل فلول النظام السابق وعدم إشراكهم في الفترة الانتقالية. قال عشر: (لست مع العزل السياسي فهو غير مفيد، والحرية للجميع) الحقيقة لا يوجد تباين في الآراء مطلقاً، ولكن السائل له مصلحة في السؤال الملغوم لأنه منهم. وفي تقديري هذه الإجابة تسلب من الثورة أعز ما تملك. فالثورات تندلع أساساً من أجل إقصاء سدنة النظام المدحور، على الأقل في الفترة الانتقالية بغية تنفيذ برامجها. وضمن هذا الإطار من الطبيعي أن يُعزلوا سياسياً وفقاً لأحكام الوثيقة الدستورية. وعليه ليس سراً إن مثل هذه الدعوة تجعل البعض يعود بالعدل والمساواة لسيرتها الأولى قبل نشوزها من حاضنتها الأيدولوجية، وكان الظن أن نضال السنين قد جبَّ ما قبله!
ثالثاً: لم يعجبني حديث دكتور عشر عن حادثة اغتيال دكتور خليل. ليس لأنه أخيه غير الشقيق، ولكن نظراً لطبيعة الجريمة النكراء التي قام بها النظام البائد ولا تسقط بالتقادم. وهي جريمة عابرة للقارات وذلك للمرة الأولى في تاريخ السودان، ولا أظن أنها يمكن أن تُمحى من الذاكرة وكان الظن أنها تقع في أولويات أجندة الحركة قبل الجلوس في قصر غردون، بل مهما تقادمت السنين فهناك حاجة مُلحة لكشف أبعاد تلك الجريمة. ولكن أن يأتي دكتور عشر بعد نحو عقد من الزمان ويقول: (التحريات لم تكتمل لأن القضية كبيرة ومعقدة) ففي ذلك حيف كبير علينا وعلى الشهيد الذي مضى إلى رحاب ربه راضياً مرضياً. ولو أن دكتور عشر أطلع على مؤلفنا قبل الأخير الموسوم (بيت العنكبوت/ أسرار الجهاز السري للحركة الإسلامية) لوجد فيه ما يطفئ الظمأ وتقازم الكلام أعلاه الذي نطق به، حيث خصصنا ما يناهز العشرين صفحة في جهد استقصائي هدفنا به ملامسة كبد الحقيقة لمن يطلبها.
صفوة القول.. ليس دفاعاً عن الحرية والتغيير، فذلك ليس شأننا. ولعلم الدكتور عبد العزيز عشر أن كاتب هذه السطور ليست له علاقة تنظيمية، لا بالكيان المذكور ولا بأي من مكوناته التي تنضوي تحت لوائه من أحزاب وهيئات، بل حتى على مستوى العلاقات العامة نكاد لا نعرف سوى قلة من ناشطيه وقد اختلفنا معهم في كثير من القضايا والآراء وسبق لنا انتقادها. وللتأكيد فإن حديثي هذا يجيئ من منطلق الاستقلالية التي نتمتع بها، لعله يجد مُدخل صدق في قلوب قارئيه تقديراً للثورة ووفاءً لدماء الشهداء.
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية ولو طال السفر
faldaw@hotmail.com