من براثن ظلاميات الواقع الذي نعيشهُ الآن ، دعونا نعودُ ولو قيد أُنملة إلى عوالم من الإشراقات التي لم تنطفيء في أوساط مجتمعنا السوداني يوماً ما ، لم تتأثَّر بالظروف الإقتصادية ولا ولوج الآيدلوجيات العالمية إلى عقول مُثقفينا في مُنتصف القرن الماضي ، ثم أنها أيضاً لم يهُز مقامها في نفوس مُمارسيها ما يحدث من تغيُّرات سياسية وتكنولوجية وثقافات وافدة ، ظلت على مر عقود ، شامخة وصلدة في نفوس حُماتها والقائمين على أمرها ، إنها يا سادتي مخزون الشهامة والتسامُح والتسامي على المرارات بالعفو عند المقدرة ، هي واحدة من كنوز بلادي التي سكنت صدور السودانيين بكافة سحناتهم وثقافاتهم وتوجُّهاتهم ، ما سنحت الفُرصة للتسامي ببذل الشهامة والتسامُح وما يفيد وحدة المجموعة وتعاضدها إلا وكانوا أوائل الباذلين ودُرة المانحين.
في خِضم ما يترى من الأخبار والحكايات والمواقف المُحبطة في وسائل التواصل الإجتماعي ، والتي أسهمت كثيراً في إغلاق المزاج الجماعي داخل زنزانة الحزن والتوتُّر والخوف من المستقبل ، طالعتُ في عدة مواقع خبراً مزوَّداً بفيديو من منطقة كبوشية – قوز ود الحاج ، يظهر فيه الشيخ / الطيب الصادق أحد أعيان قبيلة العالياب والضحواب ، في مقبرة عقب مواراة إبنهُ حمزة الطيِّب الصادق الثرى ، والذي توفاه الله مقتولاً على يد شاب من قبيلة أُخرى في مُلابسات لا أدري عنها شيئاً على المستوى الشخصي ، وبعد إنتهاء مراسم الدفن والدعاء للميت ، وقف الشيخ / الطيِّب الصادق وبعد أن حمد الله تعالى وأثنى على رسوله الكريم ، أعلن على الجمع أنه قد (عفا) عن قاتل إبنهُ لوجه الله ورسولهٌُ ، ثم لم يكتفي بذلك بل أضاف أن الجاني في مقام إبنهُ ، من باب إعتباره لأواصر القرابة والدم والنسب والعلاقات المُمتدة عبر مئات السنين بين القبيلتين أو العائلتين .
هكذا فعلها هذا الشيخ المُربي دون إعلام ولا وجاهة ولا جنوح نحو تسوُّل الشُكر والعرفان والتمجيد ، حينما طالعتُ الفيديو ، غشتني حالة من الإطمئنان أزالت عني غشاوة ما نُعانيه اليوم من أزمات وإحباطات وظلاميات حياتيه محصورة في ماديات الدُنيا الزائلة ، وإردتُ من خلال هذه المساحة أن تشاركوني التفاؤل والإحتفاء بهذا الرجُل الذي يمثلني ويُمثِّل الأُمة السودانية بأجمعها ، بل وبالإفتخار بإنتمائنا جميعاً إلى هذا الوطن وهذا الشعب المُعلِّم ، فنحنُ لم نزل بعدُ في مُقدمة قائمة (الإنجازات) الأخلاقية والقيِّمية التي لم يعُد لها وجودٌ في العالم حولنا إلا نوادراً ومُعجزات ، كيف لنا أن نمُر مرور الكرام على شيخٍ يهَب فلذة كبدهِ وعُصارة جهدهِ وساعدهُ الذي أعدهُ لزمنٍ أغبر (فدءاً) لإستمرار تدَّفُق فيض المروءة والحِكمة والعفو عند المقدرة ، مثل هذا الرجُل الذي يستحق فعلاً كلمة رجُل ، وجب أن يكون نصب أعيُّن كل من يُكلَّف بأمر هذا الشعب وهذا الوطن ، لأنهًُ وأمثالهُ يستحقون أن يكونوا (أيقونات) تُعبِّر عن (قيمة) الإنسان السوداني وطاقاتهِ المبذولة في بناء القيَّم والأخلاق الكريمة ، الإنسان السوداني بأخلاقياته هذه لا يحتاج إلى كثير جهدٍ لتسخيرهِ لصالح قضايا التنمية وبناء السودان الجديد ، فالحكومات الرشيدة والنزيهة وحدها هي القادرة على وضع الأسباب والمناهج والخطط المُستنهِضة لطاقات شعوبها طالما توفَّرت (كنوز) القيَّم والأخلاقيات.