لقد رُزئنا معكم في مؤمن../ وإنا بحديثي نيابة عن أسرته/ أشارككم الحزن على افتقاده/ والصبر على قضاء الله ومشيئته/ فقد كان لكم ولنا على قدم المساواة/ من دواعي تلطيف الحياة/ وإشعال قناديل الإلفة/ وإشاعة البهجة والمؤانسة/ ونشر عطر الصداقة/ كما كان موئلنا وسكننا في الرعاية والعطف والحنو/ وأجزعنا لكل ما يمس أي فرد منا حتى نزلة البَرد العارضة /// وأكاشفكم أني تأملت فيه بعد رحيله جانباً لم أكن ألقي إليه بالاً في حياته/ لفتني إليه بعد رحيله أحد أبناء إخواتي.. وهو التقبُّل العجيب لتصاريف الحياة../ وأقول أن حياته شهدت في بعض جوانبها امتحاناً عسيراً في الجانب المادي من الحياة/ عندما اتجهت معاول التمكين إلى سوق امدرمان/ وهو الهبوط من سلم الثروة إلى ما يقارب الإملاق /..ولكن ما لم ألحظه إنه كان على السواء في الحالتين/ لا ترى منه برَماً ولا ضيقاً / ولا استنكافاً ولا شكوى../ بل ظل مؤمن هو مؤمن/ أريحية تَحار فيها الأريحية/ وانشغالٌ بمآلات الوطن عن راحة البدن/ وإشاعة للمرح والفكاهات/ واقتناص للبوادر والمفارقات/واحتفاء بالناس والصداقات/ واقتناص للوامع المعارف والأفكار .. فسبحان الله في أن ترى مخايل الزهد والصبر في مَنْ تغلب عليه ملامح الثورية الجامحة التي لا تصبر على التجبّر وظلم الناس وهضم الحقوق..! عُدتُ وراجعت مئات المواقف فبدت لي هذه النزعة العجيبة في مؤمن: جانب الصبر وقوة التحمّل/ وجانب الإيثار والخيرية والنزعة الصوفية/ وكل ما يمكن أن يخطر على البال من معاني الغيرية وتقديم الآخرين على النفس في كل شأن وحال…!
مؤمن هو مدار حياتنا/ ومصدر حكاياتنا/ من الطفولة وعبر الصبا والشباب وما بعده/ وظلت مروياتنا هي ما نسمعه منه من قصص وحكايات/ وانتم تعلمون انه كان حبيباً (مبلوعاً) لكل من يلقاه/ تجتمع عنده الأضداد وتذوب التنافرات/..كان ينصب مسرحه العفوي في أي مكان يوجد فيه/ في السوق وفي الشارع/ /وأمام البيت/ وفي اتحادات الكرة ودور الرياضة/ ومحافل الأفراح والاتراح/ وفي أروقة الصحافة والمراكز والمجالس والمنتديات../ وفي هذا أقول إن مؤمن لم يكن صحافياً من باب الحِرفة/ فهو تاجرٌ دخل إلي السوق بجوار والدنا مباشرة بعد إكمال دراسته الثانوية في الأحفاد/ بل كان يتردد على السوق خلال فترة الدراسة/ ولكن الشهرة والصيت والإعجاب والعلائق والصلات التي أوجدها ووجدها مؤمن في عالم الصحافة لم يستطعها من عملوا سنوات عديدة في هذا المجال- مثل حالاتي- فقد كان كثيرٌ من الناس يعرفوني بمؤمن/ ولا يعرفون مؤمن بي/ وكانوا يقولون لي: (هل إنتَ أخو مؤمن الصحفي) فاطرب مرتين وأقول في سرّي: (الحمد لله أنني أخوه) مثلي مثلكم..والحقيقة إن مؤمن يتفوّق عليّ كثيراً في اتساع حجم من يتابعونه ويقرءون له/ ويعجبون بمحتوى ما يكتب ويطربون للغته السهلة الرشيقة المعبّرة المنسابة وعالية التجسيد التي لا أستطيعها../ كما إن مقدرته في التحاور والتواصل مع الآخرين غريبة وعجيبة لا تحدها حدود/ حتى مع من يخالفونه الرأي والرؤية جملة وتفصيلاً../ لكن هل كان يتنازل ويجامل في ما يؤمن به؟ ..اللهم لا…. مهما كانت أحابيل وحيّل من يتوددون إليه ويعلمون انه في طريق غير طريقهم / فيغريهم ظرفه وسماحته ورحابته بمحاولة تخفيف حدة هجومه على الباطل والقبح/ وسخريته من الأصنام والأزلام/ وإيمانه بالشعب والعدالة الاجتماعية/ وإشعاله لمصابيح الحرية والفنون/ ونداءاته للصباح الجديد ومشارق الشموس/ فيجدون أنفسهم أمام صخرةٍ منيعة/ وذاتٍ عصية على البيع والشراء..!!..
عن لطف معشره ولين عريكته وتواصلِه الحميم مع الآخرين/ اذكر لكم شيئاً وليكن (طرفةً عابرة) تؤكد ما أعنيه.. سيدة محترمة كانت من بين عوّاد مركز عبد الكريم ميرغني المداومين/ مشهورة بطيبتها وتلقائيتها../ ويبدو أنني كنت لا أدير الحديث معها كثيراً من غير أن اشعر- فمن أين لي بقبول مؤمن وجاذبيته الاجتماعية؟.. ولكنها حسِبتْ ذلك جفاءً وجفافاً من جانبي/ وتفاجأتْ هذه السيدة يوماً بأنني شقيق مؤمن.. فقالت لي: (عليك الله إنتَ اخو مؤمن؟) قلت لها (أيوه) ردت من غير أن تتعمّد إحراجي وبعفوية: “الغريبة مؤمن ظريف”…!
كان يلتقي أمام دكان مؤمن أشتات من البشر: شعراء ومغنون وظرفاء ورجال أعمال وأكاديميون ونجوم مجتمع وممثلون و(كورنجية) وموظفون ورجال مصارف ودراويش وعابرون و(زلنطحيه) وكان ذلك هو مهرجان الظرف ومسرح المنوعات البديع ومجمع المعارف والتآلف حيث تتولّد الفكاهات والطرائف والمُلَح والنوادر والحكايات التي لا تنتهي وكان على اتصال وصِلة في كل لحظة (لا ادري كيف؟) بكل ما يدور في ام درمان من أحداث وحوادث وحواديت وأخبار وفعاليات وقصص وبشر ورموز وأعلام ..!
لن أزيد على ما تعرفونه عنه../ وإنا هنا أعود وأتحدث باسم أسرته وأقرّ بعجزي عن توصيف مدى ما أشعر به وتشعر به أسرتنا تجاهكم/ في تشريفنا بهذا التلاقي النافع الذي ينير مشكاتين: واحدة للذكرى وأخرى للمعرفة/ إننا نقدِّر لكم هذا التداعي الحميم/ وهذا التذكار النبيل الذي تسارعتم إليه وتسابقتم فيه../ ونحني هاماتنا إجلالا لكريم مسعاكم واهتمامكم وتناديكم الكريم/ رغم مشاغل الدنيا وعسر الحركة والتواصل/ توسعون مؤمن حباً/ وتجعلون من ذكرى حياته الحلوة /مدارسة حول ما كان يمارسه في دنيا الكلمة/ وإيقاد مسارج الضوء ومحاربة العَتمة/ وها انتم تشعلون قناديل المحبة في مشوار الحياة الذي سار فيه بينكم /ورحل إلى حيث تنتهي مصائر البشر/ هكذا يكون عطر الصداقة وأزاهير الصُحبة الطيبة../ نحن نقدم لكم جميعاً تقديرنا الكبير وشكرنا الجزيل –مع حفظ الألقاب- على هذه المأثرة الطيبة الحميمة/ التي تشير إلى مقدار كبير من التوادد/ وجانب عظيم من الشمائل والقيم السامية والنُبل الإنساني الرفيع التي يتحلّى بها السودانيون/.. شكرا لكم بكل ما يمكن أن تسعه معاني الشكر والامتنان والعرفان../ ووداعاً مؤمن..ولتهنأ روحك الجيّاشة…فقد صدحت مزامير الحرية..وازدهت شموس المشارق..!
كلمة الأسرة قدمها د. مرتضى الغالي في تأبين شقيقه الصحفي الراحل مؤمن الغالي الذي تمثل في حلقة نقاش عن العمود الصحفي نظمها مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي بالتعاون مع أسرته وأصدقائه السبت (3 أكتوبر 2020م) بقاعة دار المصارف بالخرطوم