نعم .. طالت صفوف الخبز، وتمددت طوابير السيارات أمام محطات الوقود، وعادت قطوعات الكهرباء، وشحّت أسطوانات الغاز .. ومع ذلك لم تخرج المليونيات لتقلب الأوضاع وتجعل عاليها سافلها !
ظل الوضع السياسي قائما، وظلت النشاطات المعتادة في دورانها، واستمرت الجهود في متابعتها لرفع العقوبات الأمريكية عن السودان، واكتمل جزئيا العمل في ملف السلام، وتحققت سيطرة جيدة على كورونا، وأخذت الخدمات شكلا مستقرا، وشهدت حمّى الدولار تبريدا معقولا، وحتى السوق لم يجف من السلع المختلفة بأشكالها وأنواعها لمن استطاع إليها سبيلا .
لم يهدم الشعب الثائر المعبد على رؤوس الجميع رغم قدرته، ولم تشهد الساحة سوى الغضب المفهوم والمنطقي والصحي على الأوضاع الاقتصادية الأليمة. فقدت حكومة الثورة بعض مناصريها ممن اشتط بهم الغضب وشعروا بالإحباط، لكنها كسبت وعيا جمعيا بأن التفريط في النظام معناه الدخول في أدغال المخاطر التي لا يعرف مآلاتها سوى الله سبحانه وتعالى.
أجندة الثوار الغاضبين ظلت دائما بعيدة عن أجندة الهلوسة التي مارسها مناصرو (الإنقاذ) المتخفون خلف الأقنعة أو الظاهرون بوجوههم علانية. الثوار غاضبون على تعثر الأوضاع ومعاناة المعيشة ومظاهر القصور هنا وهناك، وكل طموحهم هو استمرار الثورة في تحقيق آمالهم وتعديل المائل وترميم المتهالك وتنظيف معاقل الفساد الموروث، في حين ظلت أجندة المتربصين هي استغلال المعاناة للتصعيد بأقصى الدرجات، طاعنين في قلب الثورة، ومشككين في نوايا الناس، ومتباكين على عهد المخلوع الذي ترك لهم الدولار بالسعر الفلاني ورغيفة الخبز بالسعر الفلتكاني !
ظل الشعب واعيا ثائرا معبّرا عن غضبه النبيل وهذا حقه، وظل الثوار قوة ضغط لتقويم المعوج وتخفيف المعاناة وتوفير الوقود والخبز والغاز والدواء .. ولن يتخاذل أحد عن هذا الدور، لكنهم لن يكونوا أبدا مطية لفلول المخلوع كي يعيدوا النظام البائد إلى مسرح الأحداث ..
هذا هو اختلاف الأجندة .. وهذا هو البون الشاسع بين الطموح الواعي والهلوسة التعيسة.