سرت في السودان موجة الدعوة للتطبيع مع دولة إسرائيل بعد اللقاء الذي تم بين بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل ورئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان في عنتيبي بأوغندا، وما تواتر من أخبار ربطت بين الموضوع وزياته الأخيرة لدولة الامارات العربية المتحدة.
سارعت بعض القيادات السياسية السودانية في تأييد الخطوة بل والتسابق نحو إعلان مبادرات وأنشطة وزيارات شعبية يعد لها لإسرائيل دعماً لخطوة التطبيع. تباينت الآراء والمبررات لهذا الأمر، بين مؤيد ومعارض، والمؤيدون منهم من يرى أنها تشكل المدخل الصحيح والمطلوب لشطب اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ومن ثم رفع العقوبات الأمريكية والدولية عنه،
بما يفتح أبواب التعامل الاقتصادي والتجاري مع إسرائيل والدول المناصرة لها. آخرون في ذات الجانب المؤيد بدأوا الترويج لأمر التطبيع بشكل تغلب عليها العاطفة من باب مالنا والفلسطينيين والعرب؟ ولماذا نحن متمسكون بقضية فارقها الكثير من أهلها منذ وقت مبكر ، إضافة الي أن هناك دولاً عربية تربطها صلات ومصالح بفلسطين أكثر من السودان سبقتنا في الأمر؟. أن وجهات النظر الداعية للتطبيع يجانبها الصواب وأعتقد أنها لا تعدو أن تكون هروباً من المواجهة المباشرة لمشاكل سياسية واقتصادية معقدة يواجهها المسئولون السودانيون،
تفرض عليهم السير في ركاب محاور خارجية ذات مصالح استراتيجية ، تختلف في ورؤيتها وسياساتها عن مواقف السودان. إن من يرون بأن التطبيع سيحقق السلام والاستقرار في المنطقة أو سيشكل مخرجاً للسودان للخروج من أزمته الاقتصادية حالمون، وتكمن خطورة الدعوة في أنها تتم في غياب استراتيجية وطنية وبواسطة حكومة انتقالية ضعيفة تضرب الصراعات أطرافها ولا تملك التفويض الشعبي ولا الارادة الموحدة ، في ذات الوقت التي تواجه فيها قوى الحرية والتغيير الحاضنة السياسية للحكومة ذات المشكلات وبأسلوب أكثر تعقيداً. لذا فان أمر التطبيع يعتبر قفزة في الظلام، وهي خطوة لم يكلف القائمون بأمرها أنفسهم بالتشاور حتى على مستوى السلطة الحاكمة والحاضنة السياسية بما يشوبهما من ضعف ،
بينما القرار السياسي في هذه الأوضاع هو أمر ملزم يفرضه الدستور والقانون. كما لا يخفى على أحد التعقيدات الأيدولوجية والسياسية التي تعج بها في الساحة السياسية بالبلاد وتشكل مجتمعة مخاطر على مسيرة الفترة الانتقالية وبلوغها لأهدافها. إن الموافقة على التطبيع من رفضه يجب أن تكون له منطلقات مبدئية مقنعة وليست هناك ثمة مبرر لدعوة التطبيع مع دولة لم تنشأ في أساسها كدولة طبيعية، ولكنها قامت على أساس الملة والعنصرية، بعيداً عن أسس العدالة والسلام والاستقرار، متناقضاً لكل أسس قيام الدولة في ظل النظام العالمي المعاصر، وهي الأسباب التي أدت لاتخاذ مواقف منها قاد الي عقد اتفاقيات واتخاذ قرارات ومواقف ضدها من دول التضامن العربي والاسلامي ومجموعات إقليمية ودولية كان من المؤمل أن تلتزم الحكومة الانتقالية في اتخاذها جميع القرارات الاستراتيجية انطلاقا من روح ومبادئ ثورة ديسمبر المجيدة وما صدر عنها من اتفاق سياسي ووثيقة دستورية، مبنية على معاني وقيم الحرية والسلام والعدالة والمدنية خياراً للشعب، وهي معاني وقيم يجب أن تمتد لمعاملاتنا مع الآخر .
إن احتفاظ الثورة بعظمتها ووهجها ينبع من خلال التزامها بشعاراتها وإسقاطها على أرض الواقع في مسيرتها لوطنية ومواقفها تعاملاتها وعلاقاتها الاقليمية والدولية، وموقف السودان من إسرائيل أو أية دولة أخرى يجب أن ينطلق من مبدأ عدم نصرة الدول المعتدية على الدول الأخرى التي تنتهك حرية وسلامة مواطني تلك الدول وتتجاوز أسس العدالة والدول التي تقوم على أساس عنصري ولا تلتزم بقرارات الشرعية الاقليمية وأو الدولية التي يكون السودان أحد أطرافها.
إن للشعب الفلسطيني قضية عادلة في مطالبتها باسترداد الأرض والحرية والسلام والعدالة وهي أمور أقرتها مجموعة من القرارات الاقليمية والدولية ظل السودان طرفاً أساسياً فيها، من بينها قرارات صادرة من جامعة الدول العربية بشأن مقاطعة دولة إسرائيل، تم اتخاذ تدابير خاصة في السودان على أساسها من بينها مقاطعة إسرائيل، وقد أصدر السودان قانون مقاطعة إسرائيل لسنة 1958م. وبموجب المادة (2) من هذا القانون فانه يحظر على أي شخص أن يعقد بالذات أو بالوساطة اتفاقًاً من أي نوع مع هيئات أو أشخاص مقيمين في إسرائيل أو مع هيئات أو أشخاص يعلم أنهم ينتمون بجنسيتهم إلى إسرائيل أو يعملون لحسابها كما يحظر التعامل مع الشركات والمنشآت الوطنية والأجنبية التي يحددها مجلس الوزراء في إعلان ولها مصالح أو فروع أو توكيلات عامة في إسرائيل.
وإضافة لذلك فان يحظر القانون جميع أنواع التبادل التجاري مع إسرائيل في البضائع والسلع والمنتجات سواء كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ويشمل ذلك البضائع والسلع والمنتجات التي تدخل في صناعتها وتجهيزها أي نسبة من المنتجات الاسرائيلية ويمتد الحظر ليشمل السلع التي يعينها مجلس الوزراء الى البلاد التي تثبت لها أنها تعيد تصديرها لإسرائيل.
كما نص القانون في المادة (7) منه بمعاقبة مخالفي القانون بالسجن مدة قد تمتد إلى عشر سنوات أو بالغرامة التي تحددها المحكمة أو بالعقوبتين معاً، وفي كل حالات الإدانة يحكم بمصادرة الأشياء المضبوطة وبمصادرة وسائل النقل التي استعملت في ارتكاب الجريمة إذا كان أصحابها على علم بالجريمة وقت النقل.
أما القانون الجنائي لسنة 1991م فينص في الباب السادس منه على مجموعة من الجرائم التي يعاقب عليها القانون باعتبارها جرائم ضد الدولة والتي تصنف كجرائم خيانة عظمى ، من ضمنها التعامل مع دولة معادية إذ تجرم المادة (52) منه كل من يقوم دون إذن بالعمل في خدمة أية دولة يعلن السودان أنها دولة معادية بمباشرة أية أعمال تجارية أو معاملات أخرى معها أو مع وكلائها بالسجن لعشرة سنوات سجن أو الغرامة أو العقوبتين معا. كما وأن المادة (55) تنص على أن من يحصل بأي طريقة على أمور سرية من معلومات أو مستندات دون إذن، ومن يفضي أو يشرع في الافضاء بتلك المعلومات أو المستندات لأي شخص دون عذر مشروع يعاقب بالسحن مدة لا تتجاوز سنتين أو الغرامة أو العقوبتين معا ، وتكون العقوبة مدة لا تتجاوز خمسة سنوات إذا كان الجاني موظفاً عاماً. وفي ظل هذه القوانين السارية فإن أي تحرك تجاه التطبيع مع إسرائيل يشكل جريمة ضد الدولة يعاقب عليها القانون.
إن اتخاذ أية إجراءات أو قرارات في القضايا الاستراتيجية والمبدئية والمحكومة بقوانين سارية لا يملك المسئول صلاحيات دستورية و أو قانونية تجاوزها الا من خلال الحصول على إذن وأو قرار صادر عن أجهزة الدولة المختصة في الدولة وفق ما ينص عليه الدستور والقانون وهو الأمر الذي لم يتبع في هذه الحالة، ويشكل بذلك مخالفة صريحة للدستور والقانون
إن مسألة لتطبيع قضية خلافية ولا تدخل في اطار مهام الفترة الانتقالية، وتناوله بالشكل الذي يجري ، في ظل هشاشة الوضع السياسي والأمني في البلاد يفتح الباب لخلافات دينية وسياسية معقدة ، مما يؤدي لاستغلالها من مجموعات إسلامية متشددة وقوى محلية واقليمية ودولية ذات مصالح تشكل خطراً حقيقياً على إستقرار ومسيرة الفترة الانتقالية. إن المصلحة الوطنية تقتضي إيقاف خطوات التطبيع بشكل فوري وعلى الحكومة الانتقالية أن تعلن فوراً قفل هذا الملف وترك أمر اتخاذ القرار حوله للحكومة المدنية التي يتم انتخابها بنهاية الفترة الانتقالية ليقول الشعب كلمته .
والله من وراء القصد
المستشار البشرى عبد الحميد
05/10/2020م