ينتابني إحساس يكاد يصل حد اليقين ، أن أهم مُشكلات هذه البلاد وأساس أزماتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية هو سيادة المُتطَّفلين من أصحاب القُدرات المحدودة والمواهب المنقوصة وعُلو مقامهم في تفاصيل حياتنا الأساسية والفرعية ، يزاحمون المُستحقين مُتسلحين بعدم الحياء والتملُّق والتسلُّق (إختطافا) لقيادة وإدارة حركة التطوير والتنمية في شتى المجالات وهُم فيما إنخرطوا فيه لا يفقهون ، مما أقعد البلاد وأنهك البلاد ، هذه الفكرة كثيراً ما تراجعتُ عن طرحها في كثيرٍ من المحافل وخصوصاً في هذه الزاوية ، خِشية أن أُتَّهم (بالنرجسية والتوهُّم) ، أو الإصابة بأمراض نفسية وعُصابية عادةً ما تصيب الفاشلين أو المُشتكين بإستمرار من الظُلم والتهميش ، وذلك عبر صوَّر عديدة أهمها الشعور بأن الآخرين غير مؤهلين ولا يستحقون ما هُم فيه من مناصب ومراتِب ومقامات.
لكن يبدو أن زمن الحياء و(الغتغته والدسديس) قد ولى ، بعد أن بلغ السيل الزُبي وباتت الأشياء ليست هي الأشياء بفضل (إنفتاح) أنظمتنا السياسية والإدارية والإقتصادية على إحتضان وتقبُّل أنصاف الحلول بما فيها قُدرات من يجلسون على سُدة الحكم أو دفة قيادة العمل الإداري والفني في كافة القطاعات ، وإن كان لا بد من بداية حقيقية لتدشين السودان الجديد وتحريك عجلة التنمية المُستدامة فيه ، فلا سبيل ولا جدوى من عمل أي شيء في هذا الإطار ، قبل (دحر) وطرد جحافل الطُفيليين والمُتسلِّقين الذي يجيدون ويتفوَّقون ويُبدعون في (حشر) أنفسهم في كل موقع ، مُزاحمين بفعلهم هذا أصحاب الحقوق الأصيلة والمؤهلات والقُدرات ، من الذين تتطلَّع البلاد إلى الإستفادة من عطائهم ، والذين هُم كعادة أهل العلم والخبرة والمؤهلات والقُدرات يرفعون دوماً راية الحياء والكبرياء والتسامي عن خوض معارك المنافسة الرخيصة خصوصاً عندما يكون روُّادها (البعوض البشري) المُنتشر في كافة قطاعات بلادي ، يمتص دم العباد ويهدِر بلا توقف موارد وطاقات البلاد ، ونحن لم نزل نتفرَّج من بعيد ونستحي أن نُشير إليهم من باب (الترفُّع) عن ما يمكن أن نُتهَّم به من (تطلُّع) لإحتلال مواقعهم ومكاسبهم.
لا أدري كيف وما هي الآلية التي يمكن من خلالها أن تبدأ الدولة في إنشاء منظومة صارمة مهمتها (فحص وتقييم) الكوادر بما فيها السياسية (عبر إلزام الأجهزة الحزبية بإعمالها) ، بحيث نعود إلى عهدنا القديم الذي طالما تغنَّت به حكايات أسلافنا عن مستوى الكوادر السياسية والإدارية والفنية التي كانت تُمثِّل صفوة ونُخبة (المسئولين) في بلادنا ، بحيث لم يكن أحد يتشكَّك حينها في أن الوزير أو المدير أو الرئيس أو أيي قيادي في قطاع من القطاعات هو(المُستحِق الأول) بين أقرانهِ ورُصفائهِ لما هو فيه من مكانة أو منصب ، في ذلك الزمان كان من ضروب المُستحيلات أن تصل إلى موقع قيادي دون مؤهلات إعتماداً على الواسطة أو الرشوة والتسُّلق ، لم يكُن يخطُر على بال أحدٍ حينها أن أمر الخدمة المدنية سيصل حداً يكونُ فيه مدير وحدة وقاية النباتات خريج فلسفة أو آداب وأرتال من الزراعيين يخوضون في مُستنقع اليأس والبطالة ، في ذلك الزمان الباهي أستطاعوا (القضاء) على البعوض البشري بـ (مُبيد) فتَّاك وثلاثي الفعالية (نزاهة وتأهيل وكفاءة).