في روزنامته: الخميس
يؤلمني جدَّاً أن الكثيرين من مثقَّفي بلادنا، مِمَّن يعارضون حزب الامَّة، لا يميِّزون، للأسف، بينه وبين المهديَّة، ثورة ودولة، فيلحقونها به!!! ومن منطلق هذا الخلط اللاتاريخاني الفادح درج بعضهم، وفيهم أصدقاء، على مراجعتي في ما أكتب، أحياناً، هنا أو هناك، متباهياً بمناقب المهديَّة! لكنَّني، مهما حاولت أن أوضِّح لهم أن هذه الكتابات هي من قبيل إبراز ما يزخر به تاريخنا من خصائص وطنيَّة رفيعة، فإن محاولاتي ظلت تذهب، دائماً، أدراج الرِّياح، رغم أنها ليست محض جخٍّ أجوف، أو مبالغات كذوب، كما اعتاد أن يفعل، مثلاً، بعض إخوتنا في الجِّوار (!) بل هي حقٌّ مستحقٌّ يجدر أن نوليه عنايتنا، وننشِّـئ عليه أطفالنا، ونجعله أساساً لمناهجـنا في التَّربية الوطنيَّة!!!!
لهذا أطربتني، مؤخَّراً، مقالة عبد الله علي إبراهيم النَّابهة، بالاستناد إلى مخطوطة محمد مصطفى موسى، حول تأسِّي الإيرلنديِّين، في بعض تاريخهم الوطني، بالثَّورة المهديَّة، حيث ورد، في ذلك، أن أمير ويلز، أواخر القرن التَّاسع عشر، والذي صار، لاحقاً، ملك بريطانيا إدورد السَّابع، زار بلدة في إيرلندا، أوان كانت جزءاً من بريطانيا، فانشقَّت حناجر أهلها تهتف في وجهه: «Up the Mahdi, Up the Mahdi عاش المهدي، عاش المهدي»، معتبرين أنهم وشعب السُّودان صنوان في طلب الحريَّة تحت قيادة المهدي الذي لم تكن محافل الوطنيِّين الإيرلنديِّين لتخلو من الهتاف تحيَّة له: «Cheers for the Mahdi»! بل وحدث أن ظهر، مرَّة، في أحد اجتماعاتهم الشَّعبيَّة، رجل معتمٌّ بعمامة، ممتطياً صهوة جواد، وقد تزيأ بجبَّة الأنصار، وعلق على صدره شارة مكتوباً عليها «مهدينا»، وذلك في طليعة موكب يطلق صيحات متقطِّعة، محاكياً ما يمكن للسُّودانيين أن يهتفوا به!!!!
وأورد عبد الله علي ابراهيم، عن المخطوطة، أن الإيرلنديِّين، من فرط توقهم للتَّحرُّر من بريطانيا، أطلقوا لقب «المهدي» على إثنين من كبار زعمائهم: البرلماني وليام أوبراين الذي لطالما هدر داخل البرلمان منادياً باستقلال إيرلندا، وصدح بالفرح، يوم تحرير الخرطوم في 26 يناير 1885م، وتشارلز ستيوارت بارنيل «مهدي إيرلندا» الذي شاع استبشار الخطب الوطنيَّة بأنه سيصلي الإنجليز ناراً على خطى سميِّه الأصل في السُّودان! كذلك رفض الوطنيُّون الإيرلنديُّون المحاولات البريطانيَّة الخبيثة للتَّشنيع على المهدي بتجارة الرَّقيق، ووصفوا ذلك بأنه العار بعينه!!فالمهدي، كما قالوا، حقيقي كالفولاذ، وأحد قرَّاء المسيح مِمَّن أرسلتهم السَّماء ليفرح به كلُّ موطوء في الأرض. وعلى هذا الأساس رفضوا الاستماع لمزاعم بريطانيا عن فظاظته، وعن يده الحديديَّة! كما لم يستشعروا أدنى أسف على مَن وصفوهم بالمغامرين مِن قتلى الجَّيش البريطاني المفترض، إنجليز كانوا، أو حتَّى إيرلنديِّين، فقالوا: «دعوهم ينزفون حتَّى الموت وهم يتمرَّغون في أموال الخديوي الملعون»!!! وقالوا إن المهدي اكتشف داءهم ودواءهم، «فحوَّل جزءاً كبيراً منهم لمحض طحالب تتوق لأن يُفتك بها»!!! وسخرت صحيفة إيرلنديَّة من إضفاء الإنجليز بطولة قدسيَّة على غردون القتيل، قائلة إنه، في الحقيقة، لقي النِّهاية التي يستحقها، فهو الذي إختار الحرب، وعليه أن يتحمَّل تبعاتها!!! وزادت أن صفات النُّبل الإلهي التي أسبغوها عليه هي شمائل لا تمتُّ لهم بصلة!!! ولعلَّ هذا الجُّزء من المخطوطة يومئ إلى ذات الشَّمائل الملفقة التي حاول رسَّامهم أن يصوِّر بها مشهد «الثَّبات المزعوم» لغردون أثناء قطع رأسه على دَرَج سرايته بالخرطوم!!!
وضمن أشواقهم إلى «مهديهم» المنتظر، اشتهرت بين الإيرلنديِّين مقالة نُشرت كافتتاحيَّة لإحدى صحفهم، عام 1884م، بعنوان «Harry, Harry, the Mahdi أسرع، أسرع، أيُّها المهدي»، وذلك عندما بلغتهم أخبار الهزائم التي ألحقها جيشه بفيالق فالنتين بيكر في شرق السُّودان، بينما توجُّه غردون من مصر ليتقلد حكمداريَّته العامَّة، فتمنَّت المقالة/ الافتتاحيَّة لغردون نفس مصير بيكر، بل وتنبَّأت بأنه «ليس بوسع بريطانيا عمل شيء حيال انتصارات المهدي التي هزَّت نظام القهر البريطاني الذي ترزح تحته بلادنا إيرلندا».
وإلى ذلك تمنَّى الكاتب على الله «أن تبلغ خيول المهديَّة الظافرة أسوار القاهرة، جزاءً وفاقاً للبريطانيِّين على حروبهم الآثمة، واحتلالهـم لأراضـي الشُّـعوب».
في تعليقه على المخطوطة أشار عبد الله علي ابراهيم إلى تباهينا القديم بأننا معلمو الشُّعوب علم الثَّورة، قائلاً إنه لطالما كان يعتقد أن في ذلك قدر كبير من المبالغة، إلى أن اطلع على هذه المخطوطة فخالجه أننا ربَّما حتَّى لم نعرف، بعد، قدر أنفسنا جيِّداً، إذ نحن، في حقيقتنا، أفضل بكثير مما نعتقد، بل وينتظرنا شغل كثير في الدِّراسات السُّودانية. وأجدني متِّفقاً مع عبد الله، تماماً، في ما ذهب إليه. بل وربَّما لزمني أن أضيف، في باب التَّأكيد على هذا التَّقدير، الوقائع الحديثة المتعلقة بالانفجار الجَّماهيري العاصف الذي عمَّ الولايات المتَّحدة، احتجاجاً على حادثة القتل العنصريَّة البشعة التي راح ضحيَّتها المواطن الأمريكي من أصل أفريقي جورج فلويد، حيث استخدم المحتجُّون آليَّات تأثَّرت، ولا بُدَّ، وبشكل واضح، بآليَّات انتفاضة ديسمبر المجيدة في السُّودان، والتي لطالما ضجَّت بها أجهزة الإعلام على نطاق العالم بأسره، وهو ما جرى التَّنويه به ضمن تقارير منصة «المختبر الرقمي لأبحاث الطبِّ الشَّرعي» التابعة للمجلس الأطلسي، والتي رصدت مسار الحراك الأمريكي بدقَّة. لقد ظهرت بصمة الانتفاضة السُّودانيَّة جليَّة في هذا الحراك، من حيث استخدام مواقع التواصل الاجتماعي في الحشد والتَّنسيق بين المشاركين واعتصامهم السِّلمي، آناء الليل وأطراف النَّهار، في أحد ميادين مينابولس، بمنيسوتا، والإشراف على تنظيم إدارة المكان، ذاتيَّاً، بعد «تحريره» من أيِّ وجود حكومي أو شرطي، وابتداع مختلف الوسائل لتأمين الدُّخول إليه والخروج منه بلا عوائق «أرفع إيدك فوق .. التَّفتيش بالذُّوق»، وتزيين حوائطه بالجِّداريَّات، والملصقات، والشِّعارات المطلبيَّة، وترديد النِّداءات المنغَّمة، والهتافات الموقَّعة، فضلاً عن التَّضامن مع المعتصمين بمختلف الأشكال، كتزويدهم بالمأكل، والمشرب، وسائر احتياجاتهم، مجَّاناً، وما إلى ذلك.