ما نعايشه اليوم من أزمة اقتصادية هو امتداد طبيعي لما حدث في عهد الانقاذ، ومولود شرعي للأزمات السياسية المتلاحقة منذ عهد الاستقلال، أس الأزمة سياسي، فالحكومات الشمولية التي حكمت البلاد لمدة ٥٤ سنة دمرت البلاد وفرقتها وجدانيا وعرقيا ودينيا وكان نتاج ذلك تفجر الحروب في الجنوب والغرب والشرق، وأصبحنا الدولة الإفريقية التي شهدت أطول حرب أهلية في القارة، كما أصبحنا الدولة الإفريقية الوحيدة التي شهدت حروبا بلا انقطاع منذ عام ١٩٧٢ وحتى هذه اللحظة.
الحروب استنزفت الموارد وعطلت استثمار مساحات واسعة من أرض السودان، شردت المواطنين وحولت عدد ضخم من السكان إلى لاجئين ونازحين، الآثار المباشرة التي أحدثتها الحرب على مناطق الجنوب والغرب والشرق يراها الجميع في معسكرات النزوح والتهجير وضعف التنمية وتوقف الزراعة والصناعة والسياحة وتدهور الصحة والتعليم، بالمقابل أثرت الحرب على بقية مناطق السودان بما فيها العاصمة بصورة غير مباشرة ولكنها مؤثرة جدا، فاقتصاد الحرب الذي ظلت تستخدمه الحكومات الشمولية بالصرف على الأسلحة والاجهزة الأمنية وتكميم الأفواه وتعطيل التنمية وعدم الالتفات إلى تطوير آليات الإنتاج، قاد إلى تردي الخدمات والانتاج وتدهور كل شيء في هذه المناطق، حتى لم يعد ممكنا التفريق بين كثير من مناطق الوسط والشمال ومناطق الحرب.
لجأت الأنظمة الشمولية لمواجهة الأزمة الاقتصادية الناتجة من تجميد البلاد بطولها وعرضها في اقتصاد الحرب الى بيع السودان نفسه، نظام الإنقاذ مثلا باع الخطوط الجوية السودانية، باع الخطوط البحرية السودانية، باع السكك الحديدية، باع أراضي السودان للاجانب لأغراض متعددة، باع خط هيثرو، باع حتى بيت السودانيين في لندن، فكك المصانع العامة وخصخص معظم الصناعات المدنية او حولها للجيش، فكك مشروع الجزيرة وباع جميع اصوله، استدان من أقطار الدنيا الأربعة، كل ذلك من أجل ان يعالج الوضع الاقتصادي المتدهور، ولم يفلح، لأن الشمولية نفسها عاملا مهما من عوامل الانهيار الاقتصادي عبر الكبت والقهر السياسي.
لا يمكن إغفال الدور الذي لعبه الجهل والتجهيل في ازمتنا الاقتصادية، تدهور التعليم في ظل الأنظمة الشمولية والذي كان عاملا مقصودا لذاته لمصادرة التفكير ومحاربة الوعي، كان عاملا مهما في الانهيار الاقتصادي، فالمواطن الجاهل لا يضيف الكثير للإنتاج والتنمية والتطور، نسبة الأمية بلغت أكثر من ٥١% في اوساط نساء السودان بينما بلغت حوالي ٣١% في اوساط الرجال، هذا غير ضعف المعلم وضعف المنهج، مضافا إلى ذلك تفشى الأمراض والأوبئة تبعا للجهل والفقر وسوء التغذية، مما جعل الأثر الاقتصادي للامراض بائنا كالشمس في بلادنا، حيث قدرت دراسة في عهد الإنقاذ ان أثر الملاريا في فترة الزراعة والحصاد ضمن منطقة البحث في ولاية الجزيرة قاد إلى خسارة ما يعادل ربع المحصول المفترض حصاده في تلك السنة في تلك المنطقة، وهو ما يجعلنا نستخلص أن مشروع الجزيرة وجميع مشاريع الزراعة السودانية تفقد نتيجة الجهل والفقر والمرض مجتمعة ما يتخطى نصف قدراتها الإنتاجية، وإذا أضفنا إلى ذلك سوء إدارة هذه المشاريع والفساد في الخدمة المدنية وسوء الطرق وتفشي أمراض المحاصيل ومشاكل المياه، فإننا بالتأكيد سنصل إلى هدر سنوي لا يبقى من المحصول المراد إنتاجه الا فتات فقط.
لذلك ولنكون منطقيين فإن الأزمة الاقتصادية الراهنة هي أزمة حتمية، كانت ستحدث لو اندلعت الثورة أو لم تندلع، صحيح هناك سرعة غير مقبولة في الانحدار للهاوية الاقتصادية سببه ضعف قدرات الحكومة الانتقالية الراهنة، ولكن الأزمة تاريخيا كانت في الطريق الى الحدوث. هذا القول سوف يجعلنا ابتداءا نفكر بأن هذه الأزمة لن تكون أزمة عارضة ولن يحلها انقلاب او شمولية جديدة، وإنما حلها في وحدة الحكومة والشعب لمواجهة الحرب وتحقيق السلام العادل الشامل وإنهاء أسباب الفرقة والشقاق بين أبناء الوطن الواحد، ثم التركيز على التعليم والصحة، والاستثمار في الكوادر البشرية السودانية من أجل تطوير قدرات شباب وشابات السودان والاستفادة منهم في زيادة الانتاج عبر استصلاح الأراضي وتطوير الصناعات الزراعية والحيوانية والمعدنية وبناء الدولة من الأسفل نحو الأعلى عبر تطوير المجتمعات الصغيرة والمنظومات المجتمعية، وفي مقدمة ذلك تفريغ شحن الصراع السياسي لمصلحة الصراع العملي التنافسي نحو التجويد والتطوير، وتحويل ملايين السودانيين من سياسيين إلى عمال مهرة ومنتجين محترفين.
sondy25@gmail.com