المفكر الأمريكي ذايع الصيت فرانسيس فوكاياما في احدي كتبه المتعلقة بمناقشة قضايا بناء الدولة، اورد نماذجا لدول تحررت من الازمات الاقتصادية، حيث ذكر من بينها نيوزيلندا التي طورت دولة رفاه اجتماعي عالية المستوى في الثمانينيات من القرن الماضي ولكنها بدأت تدخل في أزمة اقتصادية مع زيادة الدين العام والانخفاض في حسابها الجاري، مما جعلها تقوم بإلاصلاحات الاقتصادية التالية: عومت حكومة نيوزليندا قيمة الدولار النيوزلندي، ألقت القيود المفروضة على تداول العملة، ألغت الدعم الحكومي على المنتجات الزراعية والمواد الاستهلاكية، طورت نظامها الضريبي من ضريبة دخل ومبيعات إلى حزمة عريضة من ضرائب الاستهلاك، خصخصت الصناعات الحكومية، ثم توجهت نحو إصلاح مؤسسات الدولة حيث وضعت ( قانون القطاع الحكومي) وفرضت بموجبه على جميع المؤسسات الحكومية تقديم تقارير مالية شهرية مستخدمة معايير حسابية تجارية، وعينت مدراء تنفيذيين للقيام بتغيير مجموع المدخلات الاقتصادية واستخدامها لتقديم مخرجات متفق عليها مسبقا، ثم أنشأت نظام محاسبة داخل الحكومة يفرض تدابير وأنظمة صارمة أشبه ما تكون ببنود العقود التجارية.
في النموذج اعلاه، نجحت نيوزيلندا في تحويل الدولة إلى مؤسسة، وتحويل الحكومة إلى مجلس إدارة لهذه المؤسسة مستهدفة تحقيق النجاح ولا مجال فيها لخسارة بدون محاسبة. هل هذا النموذج يصلح لبلادنا؟ هل يمكن تطوير مؤسسة حكومية انتقالية ناجحة بهذا الشكل؟ دعونا نناقش النموذج من خلال المقارنات في واقعنا.
أنجح المؤسسات في السودان هي التي تدار على اساس العقود التجارية، كمؤسسات البنوك والشركات الخاصة مثل شركة دال والمدارس الأجنبية الخاصة، حيث يخضع العمل داخلها إلى نظام عقود مجزية مع محاسبة واجراءات وتدابير صارمة لا تجامل صاحب الوظيفة ولا تتعاطف معه في حال الخسارة، وينطبق هذا إلى حد ما على الصناعات والشركات التي يديرها الجيش، كذلك يمكن النظر إلى السودانيين العاملين في المهجر، فهم ناجحون في أداء مهامهم ويحرزون النجاحات لأنهم محكومين بعقود عمل تسعى إلى تحقيق النجاح ولا تجامل في الخسائر. فما هي الصورة في المؤسسات الحكومية؟
الصورة معكوسة تماما في القطاع الحكومي في السودان، التوظيف يتم وفق إجراءات غير صارمة وبعقود متساهلة ومجاملة، وهذا ما جعل بيئة العمل الحكومي تتصف بالتساهل وعدم الانضباط، ساهم كل ذلك في ضعف القطاع الحكومي وفي حدوث خسائر لا نهائية مع غياب شبه تام لإجراءات المحاسبة الصارمة، والنتيجة كانت سيادة خدمة مدنية ضعيفة وغير مجدية، بجانب تضخم طبقة من السياسيين والنفعيين الذين يتكالبون على المواقع والمناصب التي لا توجد فيها قوانين صارمة ولا محاسبة ولا متابعة ولا مراقبة ولاعقوبات، والنتيجة النهائية كانت انهيارا اقتصاديا متواصلا.
في ظل بحثنا جميعا على نموذج اقتصادي ناجح ينقذ بلادنا مما هي فيه من وضع اقتصادي مذري، فنموذج نيوزليندا قد يكون خيارا مطروحا، حيث يمكن عبره تحويل الخدمة الحكومية الضعيفة إلى خدمة ممتازة وفعالة، هناك خطوات تتنتمي للنموذج النيوزليندي تم البدء فيها بالفعل عبر برنامج وزير المالية السابق دكتور ابراهيم البدوي، ورغم إقالة البدوي الا ان رئيس الوزراء دكتور حمدوك واصل في البرنامج، ويتطلب الأمر شجاعة أكبر من حمدوك لمواصلة البرنامج وتطبيق جميع الحزم وإقرانها مع ( قانون للقطاع الحكومي) يجعل موظفي الدولة مثل موظفي القطاع الخاص يعملون لثمانية ساعات بالتمام والكمال في اليوم ويحققون كل الأرباح المستهدفة وفي حال الخسائر يتحمل الموظف ورئيسه المباشر وزر الفشل بعقوبات مختلفة تتدرج من لفت النظر مرورا بالخصم المالي والنقل وتقليص الدرجة الوظيفية إلى الفصل من الخدمة، بينما يعود تحقيق النجاح فوق المستهدف على الموظف ورئيسه بحوافز تشجيعية في شكل ترقيات او أموال، تطبيق هذا القانون يجب أن يكون صارما بطريقة لا تقبل الجدل، ويسري على جميع الموظفين في الدولة مدنيين وعسكريين.
لتحقيق اكبر قدر من النجاح لا يجب ان يستثني قانون القطاع الحكومي رئيس الوزراء ورئيس مجلس السيادة والوزراء، الكل يجب أن يحكم بعقود حكومية محددة الأهداف، الفشل في تحقيق المستهدف target يعني المحاسبة لأي شخص وفي أي مستوى، ولا كبير على القانون. وبهذا يتم بناء مؤسسات جديدة وفلسفة عمل جديدة في الدولة، وتتحول الدولة السودانية من دولة متساهلة مترهلة وكسيحة إلى مؤسسة منضبطة منظمة ومنتجة، وهذا بالضبط ما سيقود إلى تعافي الاقتصاد.
sondy25@gmail.com