نشهد اليوم هذه الانحناءة السودانية المؤلمة أمام عاصفة التطبيع التي تجتاح العالم العربي. السودان كان عليه إما الانحناء للعاصفة، أو الانكسار. وفي ظل الخراب والتخريب الغريب الذي يجري في الداخل بأيدي غريبة لكل ما يتعلق بحياة المواطن، تقتضي الحكمة على يبدو، تفويت الفرصة على المتربصين وعبور هذه المرحلة التي ينشط فيها أعداء السودان بالحكمة والدهاء.
«التطبيع» بملحقاته فاتورة أخرى باهظة الثمن يدفع ثمنها السودانيون عن فترة الانقاذ التي تكاد تكلفهم وطنا بحجم السودان. دخل السودان نادي الدول الراعية للإرهاب طواعية على يد الكيزان، وها هو يسعى للخروج منها بكل هذه الجراحات والأوجاع.
تطبع العرب ومعهم أصحاب القضية منذ عقود طويلة مضت، واعترفوا باسرائيل الدولة الغاصبة، وكانت اوسلوا 1991 بداية تصفية القضية…!!. والسودان بوهنه الحالي وضعفه، صعب عليه أن يكون ملكياّ أكثر من الملوك، وفلسطينياّ أكثر من الفلسطينيين. فقد صمد وبقى على «لاءاته» الشهيرة لأكثر من نصف قرن منذ انعقاد مؤتمر الخرطوم، وأربعة عقود ونيف منذ كامب ديفيد، ونحو ثلاثة عقود بعد أوسلو.
ومع ذلك، مرغماّ أخاك لا بطل، يمضي السودان في هذا الطريق الوعر ليتحرر من سلاسل واغلال وسعير الحصار الاقتصادي الأمريكي. وفي زمن التطبيع، يبدو أن الطريق نحو الاندماج الاممي الذي يتوق إليه السودان، ليس متاحاّ الا بهذه الجراحة المؤلمة…
الشاهد أن ضم السودان لهذه القائمة جاءت كما أسلفنا بسبب ممارسات نظام الكيزان في السودان. فمنذ بداية انقلابهم المشؤوم في يونيو من العام 1989 بدأ توافد جماعات الإسلام السياسي المغضوب عليهم في بلدانهم الأم إلى السودان. أول الوافدين ربما كان أسامة بن لادن ومعه الافغان العرب الذي قاتلوا معه في افغانستان ضد الاتحاد السوفيتي. تبعه عمر عبد الرحمن وجماعته، وراشد الغنوشي وجماعته وغيرهم.. حتى كارلوس لم يكن من الغائبين..!!. وما أن عقد السودان ما سمى بالمؤتمر العربي الإسلامي حتى اكتمل عقد المنظمات الارهابية التي اتخذت من السودان منطلقا لأعمالها الارهابية في كل مكان، من بينها السفارة الأمريكية في كينيا والصومال وغيرها.
شهدت فترة تسعينات القرن الماضي أعنف عمليات الجماعة التي استهدفت الخصوم السياسيين في مصر والسعودية وغيرها من البلدان العربية والاسلامية… وسالت دماء الابرياء غزيرة لكنها لم تكن كافية للإسلامويين، ليصعدوا اساليبهم من القتل بالمتفجرات إلى الذبح والسحل، ونقل ذلك في تسجيلات مرئية حية. وبدأ اصطياد الأمريكان و«النصارى» وذبحهم، ولاحقا طورت جماعات داعش التي خرجت من رحم هؤلاء عملياتها إلى حرق المغضوب عليهم أحياء كما شاهدنا في حالة الطيار الأردني.
لم يكسب كيزان السودان معركة واحدة من معاركهم الجهادية المزعومة، فبعد كل ذلك الضجيج والحرب الجهادية المقدسة التي اشعلوها في الجنوب…تلك الحرب التي كلفت السودان المال والرجال والأمن والاستقرار… انفصل الجنوب وذهب معه ثلث مساحة الوطن، وثلثا قوته الاقتصادية، ومعه كل البترول السوداني… فاتورة أولى مكلفة جدا ما زال السودان يدفع ثمنها حتى اللحظة..
وبالتنسيق مع جماعات الإرهاب الاخواني ارتكب كيزان السودان خطيئة محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق وكانت حلايب وشلاتين والرمادي الفاتورة التي دفعها ثمنها الباهظ نظام الانقاذ على حساب الشعب بصمت، تفادياّ للعقوبات الدولية.
مع تزايد حالات الغضب العالمي اضطر سودان الانقاذ مرغما على توقيع اتفاق مشاكوس الذي لم يعط الجنوب وحده حق الانفصال، لكنه أتاح ذات الخيار لولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان…وهكذا واصل السودان دفع فاتورة أخرى باهظة الثمن من خلال اتفاقية السلام التي وقعت مؤخرا في جوبا التي أكدت تلك الحقوق وضمنتها في الوثيقة الأخيرة.
السودان الذي تركه أشقائه العرب يواجه مصيره لوحده تحت حكم الكيزان، ظل منذ استقلاله في قلب القضايا العربية، ممثلا العمق الاستراتيجي لدول المواجهة مع إسرائيل. لم يضن السودان بأرضه ولا موارده المالية (على شحها) والبشرية على اشقائه، مقدما ارتالا من الشهداء من أجل القضية الفلسطينية، وتوج ذلك باستضافة أقوى وأهم قمة عربية في أحلك الظروف حتى سميت الخرطوم بعاصمة اللاءات الثلاثة: لا صلح، لا اعتراف، ولا تفاوض مع اسرائيل.
نحن جيل نشأ على إيقاع العزة والكرامة وأول ما تفتقت مشاعرنا على الدنيا كان عبد الناصر ملء السمع والبصر ومقولته الشهير تتردد في الأنحاء: (ما أخذ بالقوة لا يستعاد بغير القوة)..!). اذا ليس من السهولة تطبع هذا الجيل مع التطبيع…لكنه السودان الذي يكاد الا يكون… تضيق أمامه الخيارات والمخاطر..
وفي ستينات القرن الماضي ومع ظهور أولى بوادر الأطماع العراقية في الكويت حين هم عبد الكريم قاسم احتلال الكويت.. كان الجيش السوداني ينتشر على الحدود دعما وحماية للكويت. وللرئيس جعفر نميري قصة معروفة حين اشتد وطيس الحرب بين الجيش الاردني وقوات فتح الفلسطينية حيث تدخل بين القوتين واوقف مجزرة الفلسطينيين حتى تم اجلاءهم الى لبنان ومنها إلى تونس حيث تم تصفية ابرز القيادات الفلسطينية وعلى رأسهم ابو جهاد. والسودان كان حاضراّ مع القوات العربية التي تدخلت لوقف الحرب الأهلية في لبنان. كما كان الجيش السوداني حاضراّ قبل واثناء وبعد حرب أكتوبر 1973 التي غسلت عار الهزيمة القاسية التي تعرضت له الجيوش العربية في العام 1967.
على المستويين السياسي والاقتصادي، السودان اذن كان حاضرا في كل الملمات العربية. ولا ينسى العرب خبراء السودان الاقتصاديين في الصناديق العربية وبخاصة الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي والصندوق الكويتي للتنمية التي صاغها وقادها خبراء السودان وكذلك صندوق أبوظبي للتنمية، فضلا عن دور السودان المشهود في قيام ونهضة دولة الامارات العربية المتحدة.
قام السودان بكل ذلك، دون من أو أذى. ومع ذلك يقول سودانيون ان الدول العربية مارست مع بلادهم مواقف انتهازية خلال الحقبة الكيزانية المظلمة. حيث تكالب رأس المال العربي على موارد السودان للاستحواذ عليها لتحقيق مصالح أحادية لم يجن منها السودان سوى الجوع والفقر. والمطلوب اليوم كما يقولون هو إعادة واستعادة كل ما تم نهبه والاستحواذ عليه من غير حق والاستعاضة عن ذلك بشراكات استثمارية حقيقية تحقق مصالح كل الاطراف، وذلك ضمن استراتيجية سودانية تحدد اولويات وأهداف الاستثمار الأجنبي.
واليوم تنقل التقارير خبر مفاده تفريغ باخرة تنقل قمحا امارتيا إلى السودان… لا الامارات دولة زراعية ولا السودان يستحق كل هذا المن والأذى..كل ما في الأمر أن دولة الامارات سمح لها في غفلة من السودانيين ان تستحوذ على أرضهم وذهبهم لتكون اكبر دولة مصدرة للذهب في المنطقة ثم تشتري بعض من قمح لا يعرف أحد مصدره وتتكرم به على السودانيين.. هل هو زمن التطبيع وزمن اعتلاء دول التطبيع على ما سواهم..!!
اذا خان العرب السودان باستغلال سوء نظام الانقاذ بتجاهل دعمه والاستحواذ على موارده وافقار شعبه، فإن السودان لم يخن العرب لكنه ببساطة في ظل ضعفه بسبب ما اقترفوه في حقه، لم يعد قادرا على مواصلة تحمل أعباء لاءاته التاريخية… ينحي السودان أمام العاصفة حتى يستعيد قوته وحيويته بعد سنوات طويلة من التدمير الممنهج تحت حكم الاسلامويين … أما اهل الانقاذ فما عليهم إلا أن ينتبهوا لتلك الفواتير التي تركوا اثمانها الباهظة للأجيال القادمة.
أي فاتور يا ترى وشيكة الدفع في المستقبل المنظور؟؟…
صحفي اقتصادي وباحث