تعريف بكتابٍ عليك أن تقرأه: أبكى كبكى شلالو يبكي … نقوشٌ على جدار الذاكرة الكاتب: عمر أحمد محمّد طه
كتبت هذا (البوست) في منتدى أرض الحجر معبّراً عن هذه الخواطر التي عنّت لي عن كتاب توثيقيّ بديع، صدر قبل أشهر في (الرياض) عن منطقة أبكى وكبكى والجزر في بطن الحجر. حيث أبدع الكاتب عمر أحمد محمّد طه في استدعاء ذكريات حبيبة إلى كل نفس عن هذه المنطقة قبيل التهجير في عام 1964م.
ثمّ طلبت الإذن من إدارة منتدى أرض الحجر السماح لي بنقل (البوست) لمنتدى عبري تبج فأذنوا لي بأريحيّة وأنا شاكرٌ لهم.
غرضي من هذا النقل أن أوصل لقطاع أكبر من النوبيين وغيرهم إشارات يسيرة عن هذا العمل التوثيقيّ الجميل، حتى لا تفوتهم فرصة الاطلاع على الكتاب.
هذا كتاب غاية في الإمتاع والجدّة، يسحرك سحراً ويشٌدّكَ إليه شدّا. هو توثيق لرقعة صغيرة من أرض النوبة (قبل الرحيل الفاجع)، هناك في بطن الحجر بجوار الشلال الثاني. إن غاصت أبكى وكبكى وعشرات الجزر من تلك البقعة (الأثيرة لدى الكثيرين)، إن غاصت ببحيْراتها وجبالها ووديانها ومراتعها وحقولها تحت البحيرة الظالمة، فلقد أعادها إلى السطح الكاتب عمر طه بتوثيق ٍ بديعٍ أخاذ، يُدهشك بتفاصيله الدقيقة وكأنّه يحكي عن أرض غادرها لتوّه.
أصدقكم القول، لم أقرأ منذ زمان كتاباً غاص في أعماقي وهزّ وجداني مثل هذا الكتاب. لقد جعلني بعد أيّام قليلة قضيتها في كنف سحره، جعلني أحنّ إلى تلك البقعة حنيناً جارفاً حنيني إلى تبج، صرت الآن وقد أكملت قراءته أتمنّى لو أنّني لم أفعل. ليتني قرأت كلّ يومٍ صفحتيْن حتى أدخره لأطولِ وقت. على كثرة ما قرأت في العقود الأخيرة من كتب، فإنّ هذا الشعور ( شعور الرغبة في ادّخار الكتاب حتى لا أكمل قراءته) لم ينتابني ولم يُعاودني منذ عهد المدرسة الوسطى وقراءة روايات جورجي زيدان). إنّ الحزن والأسى والشجن… والفرح والبهجة والأمل كلها تنضحُ وتقطرُ في صدقٍ مدهش، لا تملك معه إلا أن تتفاعل مع حزنه فيطفر الدمع من مآقيك، أو تعايش طرفته فتضحك وتنسى الهمّ الذي يبكيك. عندما تقرأ تلك التفاصيل المتوهجة تستعيد التاريخ وتسترجعه ليس فقط (ذكريات الأرض الغرقى) لمن عرفوا أرض النوبة قبل الغرق، بل تستعيد ذكريات قريتك وإن كانت لمّا تزل على سطح الأرض، وما يفصلك عنها سوى بُعدُ المكان ليس إلا.
لقد وثـّق كاتبنا للجزر الصغيرة المنتشرة، وللبيوت والزرع والنخل والجداول والمعابر والجبال والنجود والوهاد مسميّاً إيّاها بأسمائها… دخل البيوت وهو يصفها من الداخل منتقلاً من بيت لبيت.. يوثق لساكنيها فرداً فرداً، مُسلماً عليهم كأنّهم بإزائه، وكأنه يحكي لنا عن زيارته لمسقط رأسه في الإجازة السابقة.
نقلنا عمر طه إلى أبكى والجزر، وتركنا هناك فانطبعت في أذهاننا منظومة لا تصوّر المكان والإنسان والحيوان والتقاليد والذكريات فحسب، بل لعله استلهم نظريّة الغزالي التي بنى عليها (إينشتاين) نظريّة أنّ المكان نسبيّ والزمان نسبيّ… فقد أختزل عمر طه نصف قرنٍ من حياتنا التي مضت، ليُعيدنا إلى تلك الرقعة المباركة في ذلك الزمان الجميل، قبيْل الفاجعة، قبيْل الطوفان. ثمّ إنّه لا يعودُ بنا، بل يتركنا هناك. أنا ما زلتُ في أبكى وكبكى وما زلتُ أبكي، وتطفر من عيني دمعات كلما قرأت واسترجعت قراءة قصّة الطفلة عواطف التي اغتالتها عقربٌ حقود. أنظر إلى وصفه لهذا الحدث وهو يعوُد بنا إلى الوقت الذي اندفعت فيه مياه النهر في زمن ( الدميرة) نحو الجروف المزروعة:
[الخالة فاتنا زينب آشا (هرولت هي الأخرى إلى الشاطئ لإنقاذ جروفها في (مُويْلي) قبالة (سِقرين مُشْرَا)، عبر المخاضة التي ما تزالُ ضحلة في ( كَمِّنْ أٌتي) بين بحيرة ( أمَنْ مُشْرَا) وبحيرة (أُرُهُوش)، تتبعها ابنتها الصغرى عواطف، رغم منعها المتكرّر لها، وكأنّ قلب الأمّ كان يُحدِّثها بمصير المسكينة. وحين أصرّت ( الشقيّة) على المجيء، ولأنّ لا وقت لإعادتها إلى البيت، فقد تركتها الأم.
(من كان مثل عواطف لا يعيش طويلاً)، هكذا يقولُ الناس. كانت إلى جانب مرحها ونضارها ودخولها قلوب الذين لا يعرفونها من أوّل مرّة، أثيرة عند عمّها (أبْكُكي) المعروف بحزمه وصرامته، يُناديها إلى دكانته فنزفـّها إلى هناك، يُجلسها في حجرِه فتغني له أهزوجة اشتُهرتْ في ذلك الوقت من الخمسينيّات، يقولُ مطلعها ( عربيتي الكركوبة، يا الشفتي عرس حبوبة)، يبذل لها العطاء، يكريها ويملأ ذيل قميصها بالحلوى والبسكويت فنقاسمها ( الكرِي) دون بخلٍ منها أو احتجاج.
كانت الخالة فاتنا زينب تقطع عيدان الكشرنقيق فنلفـّها، ثلاثتنا، أحميدي وعبد الحميد وشخصي، ونرفعها إلى أعلى، ليتمّ نقلـُها في وقت لاحق إلى مخابئ (حنيفن جبل)، وكانت عواطف فرِحة مرِحة، تبدو هي الأخرى مثل عروس صغيرة، ما تزال تنظر إلى الدنيا بعيون طفلة، تقطف وتجمع أزهار الكشرنقيق الزاهية الألوان، الأبيض والبنفسجي والأحمر القاني، تطير خلف الفراشات الملوّنة أحياناً، وتطاردُ السحالي المذعورة بالحركة والمياه أحياناً أخرى، حينما اغتالت فرحتها عقربة حاقدة، خرجت مذعورة بالمياه من شقوق الجروف، رافعة ذيلها الذي يقطرُ سُمّاً زُعافاً اختزنته من دسم الجروف طيلة عامٍ كامل فلم تجد سوى الجسد الطفل تفرغه فيه. أخذت المسكينة تتقافز وتضرب الأرض برجليها، تصرخ بأعلى صوتها وكأنّها وطِئت قطعة من الجمر.
لم ينُم أحدٌ بالبلدة في تلك الليلة، وقد بذلت الحكيمات من النساء جهدهنّ لإنقاذ المسكينة ، ومنهنّ جدّتي مريم عثمان تلول شريف والجدّات بتول وزينبيّة وأخريات. الجميع كان يحيط بها أمام البيت في الهواء الطلق وقد أدخلتها المطبّبات في الـ(ميْل). تبكي من الألم أحياناً، وأحياناً أخرى تضحك وتهزج بأغنيتها الأثيرة ( عربيتي الكركوبة، الشفتي عرس حبوبة) حينما تنتابها هذيانات الحمّى. الجميع قضى الليل بجوارها في ذلك المكان الحميم من ساحة البلدة الوسطى، وعند الفجر سكنت الروحُ القلقة، وارتاح الجسدُ الطفل، فانطفأت وغابت نجمة مُضيئة من سماء البلدة].
يا إلهي ما هو وقع هذه القصّة على الحجر، دعك عن وقعها على البشر. وانظر لأسلوب كاتبنا.
تلك الصورة الحزينة الأخاذة لتلك النهاية الفاجعة لطفلة حبّبها إلينا عمر طه بقلمه، ذكرتني بأبيات من قصيدة (على ما يُرام) في ديوان (الجواد والسيف المكسور) والتي يقول فيها شاعرنا جيلي عبدالرحمن:
وفي المغربِ
حين أضفى السكونُ الجلالَ الرهيب
على قريتي
وعادت عصافيرُها الشارداتُ
إلى السنطةِ
تكلل كالعقد هام الشجرْ
تـُزقـْزِقُ للنهرِ حتى السّحَرْ
مشى (عم طه) على العقربِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونعود لتحفة عمر طه»
التوثيق للمكان والسكان والزمان
ثمّ إنّ الكاتبّ ربط في كتابه بين المكان والسكّان، وربط النوبيين بإرثهم القديم، وحكى راوياً حقائق التاريخ وأساطيره بما ينبئ عن معرفة وثيقة بتاريخ ومسارات الهجرات.
وهو من بعد، قد أفرغ مخزونه من الذكريات، وجمّلها بحواشي جزلة مزدانة، يصف الجبل ويتأنّى في وصف النهر، ويستعرض أنواع الأسماك ويُحادثها، ويتخيّل مناجاة الزهور لبعضها ومغازلة عيدان الذرة لمثيلاتها، يخلو هذا بذا .. في لغة بديعةٍ وخيال مُدهِش. اقرأ معي:
(ننتقل إلى الجانب الآخر من الجزيرة فوق أرضٍ صُلبة تتناثر فوقها قطع الحصى والصلصال، إلى حيث منازل أحمد إبراهيم وحسن فاتي ومحمّد حسن عوض. تتقافز تحت أرجلنا قطع الحصى والصلصال المتناثرة فوق المكان، فرِحة جذِلة، ويوشوشُ جريد النخل طرباً في غابة النخل الممتدّة فوق الشاطئ اللازورديّ حين تغازله أنسام الأصيل، وتغرّدُ فوقها البلابل سكرَى برحيق رطبها الشهيّ، وفي الحقل الأخضر الندِيِّ تتهامس وتتهامز سنابل الذرة والفراشات الملوّنة تغازل بعضها البعض. فقد هلّت وحلّت مواسم الشوق واللقاح، بينما أخذ البعضُ من جريد النخلِ يعانق بعضُه بعضاً حيناً، وحيناً آخر يرسمُ فوق الأرض خطوطاً وأخاديد مع حركة الرياح). تخيّل رحيق الرطبِ وقد أسكر البلابل، وتمعّن في ربط حبوب لقاح النبات بالأشواق وما ينتج بعدها من تكاثر.
ثمّ تأمّل معيَ وصفـَه ليومٍ حارٍ قائظ وأثره على كلّ الكائنات المحيطة، ليس فقط البشر، يقول:
(الجميع يلهث ويتنفس بصعوبة وكأنّهم أصيبوا بتخمةٍ جماعيّة من طعامٍ تناولوه. حتى الكلاب لجأت إلى ظلال الأشياء تتقاسمها مع الناس وتزاحمهم عليها، تلهث من حرارة الجو وقد أخرجت ومدّت ألسنتها التي تقطر عرقاً. والنمل والحشرات اختبأت واستكانت في شقوق الأرض، وفي أسفل البلدة عند أحراج النخل أوت طيور القمري والبلابل والعصافير إلى أعشاشها، وسكنت السحالي عن الحركة وقد أخذت صدورها تخفق صعوداً ونزولاً من حرارة الجو. أمّا داخل مياه بحيرة (أمن مُشْرَا) فقد هربت أسماك البحيرة إلى قاعها واحتمت بمستعمرة الـ(جَاجُوس) حيث المكان أكثر برودة، وقد سكنت عن الحركة وعن توترها وقلقها الأبديّ، تبدو في مياه البحيرة الصافية الساكنة مثل أسماك في معرض للشمع تـُعرض في حوضٍ من الزجاج، وبين الفيْنة والأخرى تتواتر منها الزعنفة والزعنفتان كي تحفظ توازنها وثباتها فهي أيضاً تعرف هدأة القيلولة وإغفاءتها، حيث تنامُ ولكن مفتوحة العينيْن مثل غيلان ( الأتمور). ومن سماء البلدة انسحبت الصقور والنسور والغربان إلى حيث أوكارها في أعالي جبال الأتمور تاركة الأجواء مفتوحة مكشوفة أمام غارات الصهد وموجات الحر، فأخذت الحرارة تسعى وتتسكّع في أزقـّة البلدة الضيقة المتربة المتعرّجة، بينما أصبح الصهدُ سيّد الموقف والمكان).
كسرة:
الإمالة في الأسماء
الأستاذ عمر طه حريصٌ كلّ الحرص على النطق النوبيّ لأسماء الجزر إذ يقول أبكى (بالإمالة) وليس أبكا (بالفتح). وهذا الذي جعله هو ( وحذوتُ أنا حذوه في هذا العرض) يكتبها في الكتاب (أبكى) دون أن يضع نقطتيْن تحت الياء، في حين أنّه وضع نقطتيْن تحت ياء (يبكي) إذ أنّها ياء صريحة. أمّا نطق حرف (العين) فهو أيضاً محرّمٌ عند عمر طه، يقول: ( صحراء الأتمور). والشواهد كثيرة. لعله يلقي لنا عنها مزيداً من الضوْء.
والإمالة المشتهرة في الأسماء النوبيّة ( على وجه الخصوص) موجودة أيضاً في لغة العرب الفصحى وفي كثير من لهجات المشرق العربيّ. والذين اطلعوا على علم التجويد يعرفون الأمثلة الواردة في القرآن الكريم لكلمات بها إمالة. في الرواية التي نقرأ بها جميعاً (رواية حفص لقراءة عاصم) الإمالة الوحيدة في آية ( بسم الله مجريها ومُرساها). والإمالة الوحيدة في قراءة قالون عن نافع ( يُقرأ بها في شمال أفريقيا) في الآية ( في جُرُفٍ ( هارٍ) فانهار به في نار جهنّم)، وتـُقرأ (جُرُفٍ هيرٍ). هذه إمالات كاملة أمّا في رواية (الدوري ) التي تقرأ بها الخلاوي في السودان فإنّ الإمالات فيها كثيرة جدّاً مثل ( قل أعوذ بربّ النيس) ولكنّها أنصاف إمالات. وفيها إمالة كاملة واحدة هي (طاهى ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى). وهذا بابٌ واسع جدّاً لعلّ المتخصّصين يدلون فيه برأي.