انطلقنا نحن السبعة ، وقد أسميتها في ذلك الوقت ، شلة الأشرار ، من جهة بحري متجهين إلى منطقة اسمها أبو دليق . لم يكن فينا من زارها أو عرفها من قبل ، ولم يكن الطريق وقتها إلا طريقا ترابياً ، لا تشعر فيه بحياة ولا يسكن الناس قريبا منه . لكن العربة اللاندكروزر التي أطلق عليها فيما بعد اسم التاتشر كان تمنحنا الإحساس أننا قادرون على اجتياز كل اختبارات ومحن الطريق .
كان هذا في العام 1977 حيث تم تكليفنا من قبل أستاذنا دكتور محمد العوض جلال الدين بجمع معلومات عن الجمعيات التعاونية في قرى محددة حول أبي دليق ويبدو أنها كانت تسمى ( ريفي أبو دليق ) . نهبت سيارتنا الطريق نهبا ، وكان سواقنا زينة . لكن عدم معرفتنا للطريق وتعرجاته مع دخول الظلام لم تتح لنا فرصة الوصول باكرا . وأذكر كما عشاء البارحة تلك المرأة التي خرجت إلينا من قطيتها وسط الظلام الدامس استجابة لنداء البوري ، وهي تحمل في يدها مصباح إضاءة ( بطارية ) وعصا غليظة ، وتسألنا بعد رد السلام : دايرين شنو ؟ وردت بأن أبو دليق قريبة جدا من هنا ، وأكدت أن أولادها يذهبون لشراء السكر من هناك ويأتون بسرعة فائقة . وقالت أننا لا نرى البلدة بسبب الظلام ،ولأن القوز يقف حاجزا بيننا وبينها .
وصلنا أبي دليق عند الحادية عشر ليلا ، وكانت البلدة كلها تغط في نوم عميق . لكن دار الناظر الشيخ محمد صديق طلحة استقبلتنا دون انتظار طويل ودون بروتوكولات .
أقسمنا عليهم أننا لسنا بحاجة للعشاء ، فجاؤونا باللبن والشاي ، وقالوا أن الغد هو سوق أبو دليق ، وأن كل القرى ستجتمع في السوق ، ويمكننا أن نملأ استمارات المعلومات بدون مشقة . وقضينا ليلة في ديوان الشيخ ، وهو فسيح وعامر بأهله . كان الناس طيبون ، وكنا نحن الأشرار ، استقبلونا بحفاوة ، ويبدو لي أنهم كانوا يشتمون منا رائحة غير طيبة ، لكنهم لم ينكروا علينا شيئا من شرورنا، وأبدوا عدم الاهتمام إلا من حيث أننا ضيوف .
وفي الصباح الباكر جاءتنا صواني الشاي واللقيمات ، وكثر الترحاب من كل من وصلهم خبر وصول الضيوف .
وفي سوق أبي دليق تفرقنا لنلتقي أهل القرى هناك ، وصحبنا من تم تكليفهم من قبل الشيخ ، ورحبت بنا المنطقة كلها دون أن نشعر بأنهم ينتمون لقبائل مختلفة . كانوا أناسا طيبين للغاية ، يحملون الطيبة في وجوههم ، ويطوفون بها في عوالمهم ، ولا يحملون هماً لسلطة أو مال . السوق يفيض بالمواشي ، كأنه مخصص لها ، وكأنه لا عمل لهم سواها . لم أر الماعز والضأن بهذا الكم في حياتي .
وعند العاشرة صباحا كنا قد التقينا جميع المشرفين على الجمعيات التعاونية في المنطقة ، وطلب إلينا مرافقونا العودة لدار الشيخ، وقالوا أن الناس هناك ينتظروننا على الفطور . فعدنا ورأيت الشر يتناقص عنّا بعض الشئ ، وربما أننا أخذنا بعضاً من طيبة أهل أبي دليق . ودار الشيخ كانت تمور بالناس ،مثل السوق تماما . هل أتى إلى الدار كل من كان بالسوق ؟ ربما أن هذا ما حدث . جاء المعلمون ،
والدكتور والممرض ، وكل من يعمل في وظيفة في أبي دليق . كلهم جاءوا بدعوة من الشيخ ليسلموا علينا ويشاركوننا الفطور . لا أعلم كم ذبيحة ذبحها الشيخ لشلة أشرار صغار مثلنا ، لكن الأكل كان كثيرا وكثيفا وطيبا وطازجا .
انقضى الفطور ، وجمعنا أوراقنا في كرتونة كنا نحملها ، وسألنا بعض من كان معنا في الدار عن دار الهمباتي (الشيخ ) طه الضرير ) . استغربوا طلبنا ، لكنهم أوصفوا لنا الطريق وكلفوا من يوصلنا حتى الدار . وهم لا يعلمون أننا نبحث عن شخص مثل هذا كبحث الساعين وراء الكنز . زرنا الضرير ووجدناه ملتصقا بسريره ، ووجدنا معه غلاما لم يبلغ العاشرة من العمر يخدمه ويقوده إلى حيث يريد داخل حدود البيت . تآنسنا معه ، واستمعنا لبعض أشعاره ، ثم أهديناه بعضا من مال جمعناه من بعضنا ، فتقبل هديتنا ،وكانت هذه قمة تنازلنا عن شرّنا ،وغاية ما أخذناه من الطيبين في أبي دليق .
وأغفلنا راجعين . لكنا تهنا في الطريق ، وحدثت بيننا مناوشات ، واختلفنا ، وتعادينا . ألم أقل أنها شلة الأشرار ؟ واشتدت العداوات ولم يطفها إلى توقف السائق ، ونزوله من السيارة وهو يقول : والله لو ما تروقوا أنزّلكم في الخلا ده وأفوتكم . تهنا عن الطريق كما قلت ، لكنا التقينا لوري (سفنجة ) وأوقفناهم ،فقالوا لنا أنكم تقتربون من شندي ، وأعادونا إلى الطريق السليم .
لا أعلم إن كان دكتور ود العوض قد استفاد وأفاد بالمعلومات التي جمعناها ، أم أن رائحة الشر فيها منعت ذلك .
واليوم نسمع أن أهل أبي دليق قد فُرض عليهم حظر التجوال ، وذلك ناتج عن فعل الأشرار ، وهم مستجدون في أبي دليق . لم يكن بها شرّير واحد ، ولم يقولوا لنا أنهم ينتمون إلى قبائل شتى ، أو أن بينهم خلاف وتنافس على الزعامة والسلطة . حتى همباتيهم الشهير طه الضرير حين سمع أحدنا يقول له : والله زمنكم كان سمح ، رد الضرير بجملة لم أنساها : يا ريتو لو كان في ذكر الله ، وهو طبعا يقصد أشعاره .
طيبة أهلنا في أبي دليق هي عنوان جمالهم ، ونصاعة نفوسهم ، وعميق إنسانيتهم . كونوا كما كنتم ، وعودوا إلى أصولكم وتقاليدكم السمحاء ، وستجدون الدنيا أجمل بكثير مما تحلمون أن يأتيكم به الصراع .