محمد المكي أحمد
مستشار التحرير
للمرة الأولى في تاريخ القمم الخليجية منذ تشكيل مجلس التعاون لدول الخليج العربية في العام ١٩٨١ أرى أن قمة القائدين الراحلين (قابوس وصباح ) في السعودية اليوم (٥ يناير ٢٠٢١)قد نجحت قبل أن تبدأ مداولاتها.
مؤشر النجاح الأول أعلنه وزير الخارجية الكويتي الشيخ أحمد ناصر المحمد الصباح عشية القمة، إذ أعلن عن اتفاق بشأن فتح الأجواء والحدود البرية والبحرية بين السعودية و قطر ابتداء من مساء أمس الاثنين (الرابع من يناير ٢٠٢١).
مؤشر النجاح الثاني والمهم أن أمير قطر الشيخ تميم بن حمد أعلن في الرابع من يناير الجاري (أمس) مشاركته في قمة (العلا) بالسعودية ، وكان تسلم دعوة من العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز ، سلمها الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي الدكتور نايف فلاح الحجرف. على أرض المطار في (العلا) جاء الاستقبال السعودي الحيوي لأمير قطر (٥ يناير الجاري)، اذ تبادل وولي العهد السعودي عناقا مؤثرا رسم بدوره بداية مرحلة سريان الدفء بين الأشقاء في الدول الخليجية ومصر.
من عايش الخليجيين أو يعرف الآلام والأوجاع التي دفع ثمنها المواطن الخليجي والمقيمون خلال أكثر من ثلاث سنوات هي عمر القطيعة بين الدول الأربع (السعودية ومصر والامارات والبحرين ) وقطر يدرك ويحس ما يعنيه هذا العناق، الذي أرسل رسائل دافئة وساخنة الى جهات عدة ،داخل منطقةالخليج ، وفي العالمين العربي والاسلامي والمجتمع الدولي.
هذا العناق ليس كالذي درج عليه الخليجيون في سنوات مضت، لأنه جاء بعد سنوات صعبة وقاسية ومؤلمة وموجعة لكل الأطراف.مشهد العناق التلقائي، يعكس أولا بدء عودة سريان الدفء في شرايين العلاقات السعودية القطرية،وهذا مهم للخليجيين الذين يعرفون مكانة السعودية وأدوارها الكبيرة والمؤثرة في المنطقة والعالم ، كما يعرف المنصفون حيوية مناخ قطر وفاعلية أدوار الدوحة التي تسعى لارتياد ومواكبة آفاق العصر .
وجاءت جولة اصطحب خلالها محمد بن سلمان ضيفه تميم بن حمد بالسيارة في مناطق أثرية في أرجاء (العلا) لترسل رسائل مهمة الى من يهمهم الأمر داخليا وخارجيا .الرسائل تضع حدا للقطيعة،وتزرع غراس التواصل وتبني جسرا للتفاهمات والتعاون، وتسكت الأصوات التي (سمسرت) بأوجاع الخليجيين ومصر ، وأدعت أنها تناصر هذا الطرف أو ذاك، لكنها كانت (تستثمر) على حساب مواجعهم ومشكلاتهم وتلهث وراء المال .
تطبيع العلاقات السعودية القطرية يؤشر الى فتح صفحة جديدة أيضا في علاقات الدوحة مع مصر والامارات والبحرين،اذ تشكل القيادة السعودية القاسم المشترك ومركز الثقل الخليجي، والعربي أيضا بالمشاركة مع مصر . قلت في مقال سابق أنني كتبت عشر مقالات خلال عام عن الأزمة الخليجية، وكنت أكرر أن لا مستقبل للحصار والقطيعة،وأن المستقبل لحقائق التاريخ والجغرافيا،وأن المصالحة آتية، ونوهت بدور أمير الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد ، اذ يعود اليه الفضل في نجاح المصالحة الخليجية.
صحيح ان واشنطن لعبت دورا في الفترة الأخيرة ، وكنت كتبت في وقت سابق أن الرئيس دونالد ترمب لعب دور (السمسار) ومارس الابتزاز على طرفي الأزمة، وساهم في إشعالها، خصوصا في أيامها الأولى.
الآن تداخلت عوامل محلية في الدول الخمس ( السعودية ومصر وقطر والامارات والبحرين) ومستجدات اقليمية ودولية بينها انتخاب الرئيس جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة لتدق نواقيس الخطر، وأدى هذا -الى جانب تململ الشعوب الخليجية والمقيمين من تطاول الأزمة والدور السعودي الحاسم – الى الاختراق التاريخي الكبير في ملف واحدة من أسوأ الأزمات في الخليج والمنطقة والعالم.
كتبت في وقت سابق (خلال فترة الأزمة) أن السعودية دولة كبيرة وكانت وستبقى مركز الثقل الخليجي والاسلامي، وأن قطر دولة حيوية تسعى لارتياد آفاق العصر،وأن الإمارات دولة مهمة ايضا وكذلك البحرين، أما مصر فان في قوتها واستقرارها وأمنها استقرار وصمام أمان للجميع.
دعوت الى أن تتعامل حكومات (الدول الخمس) مع حقائق التاريخ والجغرافيا، وتحترمها، وهذا سيعزز احترام السيادة الوطنية ويحول دون التدخل في شؤون أية دولة.قضية (الأمن) كانت وستبقى تشكل إما عود ثقاب يشعل الخلافات، أو مصدر تفاهم وتعاون بين الجميع،اذ تتداخل المصالح وتتشابك بين الدول الخمس في دائرة اسمها (الأمن السياسي).أما الإعلام في الدول الخمس فهو انعكاس للصراع والخلافات وليس سببا للأزمات ،اذ تتحكم (الدول الخمس) في وسائلها الاعلامية وتحركها في أوقات الصراع.وهاهي القنوات نفسها والصحف أيضا (في الجانبين) تغير نهجها مئة في المئة وتبدل لسانها وتوقف (حملاتها) لأن التفاهم السياسي قد تبلور بين القادة.
ما جرى ابتداء من ٥ يونيو ٢٠١٧ (تاريخ بدء القطيعة) الى قمة (العلا) الخليجية (٥ يناير ٢٠٢١) يزخر بالدروس والعبر.
أجدد ما كتبته سابقا في هذا الشأن بضرورة التعلم من الدروس المريرة ،وتحليل أسبابها،وكيفيات تجنبها وعدم تكرارها.اليوم انتصرت في قمة (العلا)الحكمة الخليجية.. والوعي القيادي بمخاطر استمرار الصراع المحموم..اليوم انتصرت ارادة الشعوب الخليجية وشعب مصر ..
اهنيء السعوديين والقطريين وكل الخليجيين والمصريين ، والمقيمين في الدول الخمس ،فقد عانوا كثيرا، وتكبدوا متابع السفر الطويل والحظر الشديد..طي صفحة الخلاف بين (الدول الأربع) وقطر تثير ارتياحي وسعادتي الشخصية، اذ عشت في ربوع الخليج (في الدوحة) لأكثر من ثلاثين عاما وكنت اتعامل خلالها يوميا مع الخبر والحدث الخليجي.. وبنيت علاقات مع شخصيات وسياسيين وصحافيين، و اعتز بعلاقاتي المتوازنة مع الجميع . قمة (العلا) التي أعلت الشأن الخليجي ورفعته إلى مستواه المعهود ودوره الريادي المعلوم ذكرتني بالقمم الخليجية التي غطيتها ،وبالشخصيات التي التقيتها.تذكرت اليوم صديقي (التاريخي) صاحب الصولات والجولات في ميادين العمل الخليجي المشترك وهو الأمين العام السابق لمجلس التعاون الخليجي (وزير الدولة القطري حاليا) الأستاذ عبد الرحمن بن حمد العطية، فقد رافقته في عدد من قمم الخليج، وهو صاحب انجازات لن تنسى في سجل انجازات خليجية ، وكان أيضا وما زال صديقا للإعلاميين، وصاحب مواقف شجاعة بشأن مستجدات الأوضاع الخليجية والعربية.أعتقد بأن صديقي (ابو حمد) من أسعد الناس اليوم بلم الشمل الخليجي.. لأنه أحد أبرز بناة البيت الخليجي (مجلس التعاون) وله بصمات تعترف بتميزها حكومات دول الخليج الست وشعوبها .أبادل (ابو حمد) اليوم مشاعر الارتياح والسعادة..
وأحمد الله في الوقت نفسه أنني حافظت في كتاباتي منذ سنوات عدة وصعبة (مهنيا) وأيضا خلال سنوات القطيعة بين (الدول الاربع) وقطر على مواقفي المستقلة، المهنية.. البعيدة عن الاسفاف والاصطفاف والاستقطاب والاستقطاب المضاد ،ولا ارغب في كشف تفاصيل كثيرة في هذا الشأن الآن.
الأزمة كانت اختبارا صعبا للسياسيين والاعلاميين (المهنيين)..أكرر ،الرابحون من المصالحة تقف الشعوب في صدارة صفوفهم ، ومعهم من حافظوا على نظافة الكلمة، او صمتوا احتراما لأنفسهم ..الخاسرون هم من راهنوا على استمرار الأزمة بين قطر و(الدول الأربع)..ومن سقطوا -بارادتهم او بسبب غياب النضج والوعي السياسي والانسياق وراء الأوهام أو سعيا وراء المال – في مستنقع هذا المحور أو ذاك..الدرس مرير.. لكن أبواب التعلم من الدروس مفتوحة لمن يريد مراجعة الذات، ويشمل ذلك الحكام والسياسيين و(بعض المحللين ) هواة التلون وتبديل المواقف (الحربائية) .. المراجعة ومكاشفة الشعوب الخليجية وشعوب المنطقة (وبينها شعب السودان) وضرورة احترام تطلعاتها المشروعة في حياة حرة وكريمة ومستقرة ومزدهرة تصان فيها حقوق الانسان تعد من الضرورات الملحة، في أي مكان في العالم، وخصوصا في الخليج والعالم العربي ، لاستعادة صدقية مفقودة..ولتحقيق العناق الدافيء بين الحاكم والمحكوم..
محمد المكي أحمد لندن – ٥ يناير ٢٠٢١م