تدرك أديس أبابا أن فتح جبهة المعركة في الحدود مع الخرطوم سيكون مكلفاً لها.
بعد تصريحات متبادلة بين كل من السودان وإثيوبيا حول أحقية المناطق المتنازع عليها في الحدود الشرقية بين البلدين، وإثر مقتل 6 نساء سودانيات وطفل، كانت زيارة رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان، إلى منطقة الحدود وتفقّده لأحوال الجيش هناك الأسبوع الماضي، مؤشراً ذا دلالة إلى طبيعة المسار الذي يمكن أن تؤدي إليه الأحداث.
بدايةً، يمكن القول إن خطاب الحرب في إثيوبيا والحديث حولها لا يكاد يشغل بال القيادات العليا للدولة هناك، كرئيس الوزراء آبي أحمد، أو حتى وزير خارجيته، لأن جيوب الحرب في إقليم تيغراي لم تنتهِ بعد. لهذا نجد أن آبي أحمد ترك التعليق والتصريحات عن أوضاع الخلاف حول الحدود السودانية الإثيوبية لكل من الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية دينا مفتي، وأحياناً إلى السفير الإثيوبي في الخرطوم الذي أطلق أخيراً تصريحات غير مرحب بها بخصوص الحدود.
من الناحية السودانية، كانت الزيارة الثانية للبرهان إلى منطقة الحدود خلال الأسبوع الماضي والزخم الذي صحبها، سواءً لجهة التصريحات الإعلامية المعلنة التي خاطب فيها الجيش، أو لجهة الدعاية والتحفيز القومي الذي ظهر من خلال مشاركة بعض المطربين والمطربات بالزي العسكري، كل ذلك الإخراج من جاب المكوّن العسكري بدا لافتاً، لا سيما في ظل غياب لأي اهتمام موازٍ في الجانب الإثيوبي!
وفيما تتهم أديس أبابا طرفاً ثالثاً يسعى إلى تحريض المكوّن العسكري السوداني على تأجيج حرب الحدود بينهما، يبدو في زعمها ذاك ما يشير إلى محاولة لتبريد احتمالات الحرب في الحدود والنزوح بتأويلها نحو إرادة لصراع جيوسياسي أكبر.
وفي كل الأحوال، فإن المتأمل في أحوال البلدين الجارين سيجد أن مبررات الحرب الحقيقية أقل بكثير من احتمالات اندلاعها، نظراً إلى الأوضاع الجيوسياسية لكل منهما والتعقيدات الداخلية فيهما.
فالتحولات التي طرأت في السودان بعد الثورة، والإجماع الذي حظيت به ثورته في المجتمع الدولي (وكانت إثيوبيا قد لعبت دوراً في ملف الاتفاق الداخلي بين العسكر والمدنيين، بقيادة رئيس وزراءها آبي أحمد عبر الاتحاد الأفريقي)، إلى جانب القبول الذي بدا عليه وضع البلاد في المجتمع الدولي، خصوصاً بعد إزالة اسمها من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ودخول الولايات المتحدة على خط دعم المدنيين في مسار التحوّل عبر قانون الانتقال الديمقراطي والشفافية والمساءلة، كل ذلك وضع السودان في دائرة الاهتمام الدولي.
وهكذا ما إن استدعت إثيوبيا جيشها المرابط في منطقة الحدود السودانية الفشقة الكبرى والصغرى (التي تعدّت عليها بوضع اليد عام 1995 مستغلة العزلة الدولية لنظام عمر البشير إثر محاولة مقتل الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا عام 1994 التي تورط فيها نظام البشير آنذاك)، حتى أعاد الجيش السوداني انتشاره في المناطق التي انسحب منها الجيش الإثيوبي للمشاركة في عملية “إنفاذ القانون” بإقليم تيغراي، التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الجنود الإثيوبيين – بحسب مصادر – بالتالي استعادت الخرطوم ما يقرب من 90 في المئة من حدود البلاد في تلك المنطقة.
حسابات دخول الحرب ضد السودان ستبدو صعبة بالنسبة إلى إثيوبيا في ظل الأوضاع المحتقنة داخلياً، والآثار التي خلّفتها عملية “إنفاذ القانون”، والإدانة التي لقيتها أديس أبابا من الولايات المتحدة و الاتحاد الأوروبي، إلى جانب المأزق الذي وقع فيه الرئيس آبي أحمد من جراء هذه الحرب التي لم تنتهِ فصولها بعد.
كل تلك المعطيات ستبدو بمثابة كوابح للحراك الإثيوبي نحو الدخول في حرب مع السودان، اللهم إلا إذا غابت عن العقل السياسي الإثيوبي تماماً حسابات المصالح الجيوسياسية، وأعمت أسباب الحماسة للحرب ضرورات الركون إلى السلام والدبلوماسية.
وفيما لا يبدو اليوم النظر المجرد والبسيط ممكناً لتفسير القرارات الاستراتيجية بمعزل عن الحسابات الجيوسياسية لموازين القوى الدولية، سنجد كذلك أن الاتجاه الذي يوحي بالدفع نحو الحرب هو اتجاه المكوّن العسكري في سلطة المرحلة الانتقالية السودانية، ويكاد لا يخلو الميل إلى الحرب في إرادة هذا المكوّن من حسابات تتعلق برسائل موجّهة إلى الداخل، ومصالح ترتبط بالتعقيدات التي تلوح حول إمكانية الاتهام والمساءلة عن تهم وقضايا تدور حوله في أحداث أمنية مضادة للثورة، سواءً في ملف فض اعتصام القيادة العامة، أو محطات أخرى، (ولا تزال الملفات المتصلة بالعسكر قيد التحقيق في لجنة تحقيق حول أحداث فض الاعتصام)، ما سيعني أن أجواء الحرب يمكن أن تسمح بتأييد شعبي كاسح لهذا المكوّن إذا اندلعت لأن ما سيترتب عليها سيكون أيضاً مساهماً في رجحان التفاف الشعب حول المكوّن العسكري، وهو أمر سيؤدي إلى اختلاط أوراق المرحلة الانتقالية على نحو يربك كل الحسابات السياسية للسلطة الانتقالية، وربما يعيد ترتيب أوضاع جديدة نتيجة لتلك الحرب!
وكانت هناك ردود فعل لافتة في أوساط المدنيين والمؤيدين لقوى الحرية والتغيير في التحذير من اندلاع الحرب في ظل الظروف المعقدة التي يمر بها السودان، ما أدى بعد ذلك إلى تصريحات العضو المدني في مجلس السيادة محمد الفكي سليمان في المؤتمر الصحافي يوم الجمعة الماضي، إذ أعلن بوضوح تام أن السودان لا يريد حرباً مع إثيوبيا، ولن يتنازل عن أراضيه التي استردّها في الوقت ذاته.
وسرعان ما لقيت تصريحاته ردود فعل في اليوم التالي عبر تصريحات رئيس الأركان الإثيوبي برهانو جولا لإذاعة “صوت أميركا” الناطقة باللغة الأمهرية، إذ وصف العلاقات بين البلدين بـ “العلاقات التاريخية والمتجذرة”.
كما قال إن “أديس أبابا ليست لديها مصلحة في الدخول في حرب مع السودان”. وبدا في تلك التصريحات تماهٍ واضح مع كلمات محمد الفكي سليمان.
مأزق الدولتين
تدرك إثيوبيا أن فتح جبهة الحرب في الحدود مع الخرطوم (على ما في ذلك من حيث لا أحقيتها في أراضٍ هي أراضٍ سودانية، بحسب الخرائط الدولية والرسمية)، سيكون مكلفاً لها، خصوصاً في أعقاب حرب أهلية لم تنتهِ بعد، فقد يؤدي إعلان الحرب إلى انقسامات داخلية لأن الجبهة الوطنية غير موحدة في إقليم تيغراي، إضافةً إلى أن قوميات إثيوبية أخرى مثل الصوماليين والعفر، قد لا يرغبون في خوض حرب ضد السودان.
كما أن ردود الفعل المحتملة لأي حرب شاملة مع الخرطوم ستترتب عليها تداعيات في جبهة تيغراي ذاتها، إذا فتح السودان حدوده مع الإقليم، أو لعب دوراً مضاداً في تحريك جبهة بني شنقول، وكلها أوراق تدرك إثيوبيا أنها بيد السودان، علاوةً على أن الأخير اليوم هو ربما الدولة الوحيدة في القرن الأفريقي التي تتهيّأ لدور محوري في ظل الرعاية التي توليها الولايات المتحدة في دعم المكوّن المدني للثورة السودانية. فالبلد من حيث قدراته وإمكاناته يعتبر دولة محورية في القرن الأفريقي ووسط أفريقيا، وربما يكون الأكثر تأهيلاً لدعم المجتمع الدولي على حساب إثيوبيا، التي كشفت الحرب الأخيرة فيها عن احتمالات كبيرة تهدد ديمقراطيتها بخطر الانقسام، إلى جانب حاجة أديس أبابا الماسة إلى الدعم والمساعدات الدولية لناحية تعدادها السكاني الكبير، والذي قد يؤدي أي تفريط في حاجاته الأساسية إلى ظهور شبح الضائقة المعيشية.
من ناحية ثانية، سيشكّل الدخول في حرب شاملة مع إثيوبيا مأزقاً للسودان، لأنه في هذه الحالة، سيترجح صالح المكوّن العسكري في السلطة الانتقالية، ذلك أنها الميدان الوحيد الذي يجيده العسكر، ما سيعني أن الواقع الذي سينتج من الحرب – إذا وقعت لا سمح الله – سيكون بمثابة تعزيز لحظوظ المكوّن العسكري في السلطة الانتقالية، ولا يخفى أن هناك مصالح كثيرة للعسكر في ترتيبات كهذه سيكون أهمها، ضمان سلطة حكم شبه منفرد قد تهدر استحقاقات كثيرة في مصائر محتملة لبعض الذين تم استجوابهم في أحداث فض اعتصام القيادة العامة (من أمثال البرهان وحميدتي وكباشي وياسر العطا وكلهم أعضاء في مجلس السيادة السوداني) من قبل لجنة التحقيق بقيادة الحقوقي السوداني الضليع نبيل أديب.
وغني عن القول إن الدخول في حرب مع إثيوبيا سيعني بالضرورة خصماً كبيراً من سلطة المدنيين، لا سيما أن المكوّن العسكري يدرك اليوم المفاعيل المحتملة لـقانون الانتقال الديمقراطي والشفافية والمساءلة، الذي أقرّ في الكونغرس الأميركي بغرفتَيه خلال ديسمبر (كانون الاول) الماضي، وبمجرد التوقيع عليه من قبل الرئيس المنتخب جو بايدن سيكون سارياً.
وهو قانون صُمّم في جزء كبير منه لتكبيل يد المكوّن العسكري في السلطة الانتقالية عبر شروط جزائية محتملة ضده حال إخلاله ببنود القانون الجديد، بعدما تبيّن أن هناك عمليات أمنية لشد الأطراف كان هدفها إفشال الحكومة المدنية، مثل زعزعة الأمن في شرق السودان وغربه (اللجنة الأمنية في ولاية البحر الأحمر بشرق السودان التي وقعت في ظل إدارتها 5 موجات من الاقتتال الأهلي لا يزال قادتها في مراكزهم حتى الآن في مدينة بورتسودان تحت سمع وبصر المكون العسكري في الخرطوم) .
وانكشفت حقيقة الأمور مع الهدوء الذي تشهده اليوم منطقة شرق السودان، حيث لا نكاد نسمع ضجيج الأصوات التي كانت تؤجج نزعات الكراهية والإقصاء بين المكونات المحلية، وهو ما يؤكد أن ثمة في الخرطوم من أوعز لتك الأصوات بالصمت لأن هناك ترتيبات جديدة وتطورات وضغوط قد لا تبدو نتائجها في صالح المكوّن العسكري للسلطة الانتقالية.
ملامح التهدئة
لقد بدا واضحاً أنه إذا كان هناك ثمة عقل سياسي في أديس أبابا، فإنه لن يخوض أي حرب في الحدود الغربية لإثيوبيا، وسط الظروف والمعطيات التي تمرّ بها البلاد داخلياً وخارجياً، لا سيما في ظل بعض أهم أركان الإدارة الأميركية الجديدة مثل سوزان رايس، كبيرة موظفي البيت الأبيض في الإدارة الجديدة لبايدن (وهي سياسية أميركية نفذت مهمات سياسية في منطقة القرن الأفريقي إبان رئاسة أوباما، ولها اهتمام دراسي خاص بالقرن الأفريقي وبمنطقة تيغراي في إثيوبيا) التي عبّرت عن استيائها من الحرب التي شنتها أديس أبابا على إقليم تيغراي، إضافة إلى أن الملحق العسكري الإثيوبي السابق في سفارة بلاده لدى واشنطن الذي تعود جذوره إلى الإقليم، كان قد رفض دعوة آبي أحمد للعودة إلى أديس أبابا أثناء الحرب على إقليم تيغراي.
وربما قد لعب دوراً في تبيان حقائق كثيرة حيال ما جرى في الإقليم أثناء العملية التي سمّيت بعملية “إنفاذ القانون” في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.
هكذا فيما لا يبدو أن خيار الحرب الشاملة بين البلدين يصبّ في صالح كليهما، تؤشر التصريحات الأخيرة لكل من عضو مجلس السيادة السوداني محمد الفكي سليمان من ناحية، وتصريحات رئيس الأركان الإثيوبي برهانو جولا، إلى أن ثمة خياراً للتهدئة وتبريد جبهة الحدود بين البلدين. على الأقل في الوقت الراهن الذي تخوض فيها الخرطوم وأديس أبابا تحديات كبيرة ومصيرية في الداخل.