أصدرت لجنة التفكيك توجيهات بتحريك إجراءات جنائية ضد كافة رموز وكوادر وقيادات حزب المؤتمر الوطني بالمركز والولايات، وهي دعوة ثورية وليست قانونية، فالثورة تبيح ما لا يبيحه القانون، ولكن المأزق ان الوضع الراهن في السودان لم يعد ثورة مكتملة، كما أنه لم يعد دولة قانون مكتملة، بل أصبح الواقع ثورة (نص كم) ودولة قانون (نص كم)، وهذا إزدواج غير مريح ومربك للجميع وخاصة للعالم الخارجي الذي يتابع التحول الانتقالي السوداني وينظر إلى الاتجاه الجديد للسودانيين بعد أكثر من ربع قرن من غياب دولة القانون. ولذلك ليس من الجيد أن يبدأ السودان العودة إلى المجتمع الدولي منتهكا لقوانين الحريات ومقييدا لها.
كان يمكن أن يكون قرار إعتقال كافة الكيزان الفاعلين (مبلوعا) بعد انتصار الثورة مباشرة، ولكن الآن وبعد قرابة العامين من عمر الفترة الانتقالية يمثل رجوعا عن دولة الحرية والعدالة والقانون، ليس مرفوضا اعتقال اي كوز ثبت للدولة انه يعمل على تقويض النظام الحالي، كما أنه ليس مرفوضا اعتقال الكيزان الذين أساءوا استخدام السلطة في عهد النظام البائد والذين اجرموا في حق الشعب، والقيادات الذين اعتدوا على الديمقراطية وانقلبوا عليها في ليل ٣٠ يونيو ١٩٨٩، هذه جميعها مسوغات قانونية لا يمكن النقض فيها ولا التشكيك فيها وهي تستهدف أفراد بعينهم، ولكن أن يصدر قرار بتحريك إجراءات جنائية ضد (كافة) الكيزان ( الفاعلين ) فهذا أمر ثوري فقط ولكنه مخالف للقانون ولروحه ولن يفيد البلاد وصورتها الخارجية بل سيخصم كثيرا جدا من صورتها الزاهية التي جاءت بها كحكومة ثورة تدعو للحريات والعدالة.
لو يتذكر الجميع فان أكبر الانتقادات التي كانت تطال النظام البائد هو استخدامه وسيلة الاعتقال السياسي، كان رباطة وامنجية النظام البائد يعتقلون المعارضين فقط لأنهم سياسيين (فاعلين) في الاحزاب السياسية المعارضة، بلا تهمة ولا سبب محدد ولا محاكمة، تقييد كامل للحريات وتكميم للافواه، ظنا منهم ان ذلك هو الطريق الذي سيبقيهم في الحكم، ولكنهم كانوا مخطئين، فقد ثار الشعب عليهم واقتلعهم عنوة واجبارا. لذلك استخدام وسائل وطرق النظام السابق الامنية لن تفيد في تثبيت أركان نظام حكم، ولن تمثل سوى ردة عن طريق الحريات.
ليس مستبعدا ان ينشط كوادر الدولة العميقة في معارضة الحكومة الانتقالية، ولكن الحقيقة أن هناك صف من الأحزاب والتنظيمات السياسية التي كانت جزءا من الثورة تنشط ايضا في معارضة الحكومة الانتقالية، فكيف ستتعامل معهم الحكومة الانتقالية؟ هل تعتقل الفاعلين منهم ايضا؟ وهل كل نشاط معارض ستواجهه الحكومة بالاعتقال وتكميم الافواه؟ لا نريد أن تنشيء الثورة نظاما شموليا بعد إطاحتها بنظام شمولي، فهذا يعني أننا( لا رحنا ولا جينا)، ليس هذا كلاما مثاليا ولا طوباويا وإنما هي الحقيقة التي يجب ان ينتبه لها الجميع، فإما أن ننشيء نظاما ثوريا يطبق العدالة الناجزة ويقطع الرؤوس ويسجن من طرف وننسى ان يتقبلنا العالم كدولة محترمة، أو أن ننشيء دولة قانون لا يسجن فيها أحد الا بجريمة مثبتة فنكسب احترام أنفسنا والعالم، أما خليط الثورية ودولة القانون فهو مأزق سيشوه وجه السودان وثورته ليس إلا.
sondy25@gmail.com