حاورته : فاطمة مبارك
أداء وزراء هذه الحكومة مرآة لفكر حواضنهم السياسية واختبار للقدرة حمدوك على بناء برنامج توافقى
على شباب الثورة أن يتفاعلوا إيجابياً مع هذه المرحلة الحساسة
الأهم التماسك والتوافق المتين بين مكونات الحكومة وحواضنها السياسية
“المتلازمة السودانية” أو “الحلقة المفرغةة” ما زالت هاجساً
وزير المالية السابق الدكتور إبراهيم البدوي خبير اقتصادي مشهود له، وكان ضمن تشكيلة الوزارة الأولى لومة الانتقالية، واجه كثيراً من الهجوم، واستطاع أن يدافع عن سياساته وقناعاته، وآثر الانسحاب ليتيح المجال لغيره.
هذا حوار نقف من خلاله على بعض رؤائه وتصوراته.
ماتقييمكم للتشكيل الوزاري الجديد؟
أهم ميزات التشكيل الوزاري الجديد، أنه نتاج لمحاصصة صريحة بين شركاء السلطة الانتقالية من مختلف أحزاب وأجسام قوى الحرية والتغيير وحركات الكفاح المسلح، إضافة إلى قيادة المؤسسة العسكرية.
ومن الإنصاف التنويه أيضاً إلى أن عملية الاختيار للحقائب الوزارية ربما راعت إلى حدٍ ما معايير الخبرة والكفاءة.
إذاً أنت ترى ميزة لهذه الحكومة ؟
ميزة هذه الحكومة أنها لا تتيح مجالاً للمناورة لهذه الحواضن السياسية كما في حالة الحكومة السابقة، حيث درجت بعض أحزاب وأجسام قحت في كثير من الأحيان على التبرؤ من ذات الحكومة التي شكلتها.
عليه، أداء وزراء هذه الحكومة لابد أن يكون مرآة لفكر حواضنهم السياسية وقدراتها التنظيمية والتعبوية، وكذلك لإمكانيات رئيس الحكومة القيادية في بناء برنامج توافقى متوازن وقابل للتطبيق.
ماذا ترجو من شباب الثورة ؟
على شباب الثورة أن يتفاعلوا إيجابياً مع هذه المرحلة الحساسة في مستقبل السودان، ويبنوا اختياراتهم المستقبلية بناءً على تقييمهم لمتانة مشروع هذه الأحزاب والحركات من شركاء السلطة، أو حتى من تلك التي اختارت المعارضة، كما في حالة الحزب الشيوعى. هؤلاء الشباب هم “بيضة القبان” للتمرين الانتخابي الديموقراطي القادم بإذن الله، حيث تشكل الفئة العمرية لما دون الثلاثين عاماً أكثر من 67% من المواطنين.
إلى أي مدى يمكن أن يسهم التشكيل في حل إشكالات السودان بصورة عامة ؟
من الناحية النظرية، يفترض أن تتمتع هذه الحكومة بقاعدة شعبية عريضة إلا أن معالجة إشكالات وتحديات الانتقال من الصعوبة بمكان، وبالتالي تحقيق النجاح يتطلب رؤية ثاقبة وإطار عمل محكم وسياسات فعالة، وربما أهم من ذلك تماسك وتوافق متين بين مكونات الحكومة وحواضنها السياسية.
كيف ترى حالة السودان الآن؟
حالة السودان الآن يمكن توصيفها في إطار نظرية ما يسمى بـ “الممر الضيق نحو التطور والحرية”، والتي تناولها كتاب صدر في العام 2019 لأثنين من أساتذة الاقتصاد السياسى ذائعى الصيت (دارون أسيموقلو، معهد ماساتشوتس للتكلنوجيا؛ وجيم روبنسون، جامعة شيكاغو).
حسب هذه النظرية، ربما يكون السودان قد دخل في هذا الممر، كنتيجة للطاقة التعبوية الشعبية القوية التي أفرزتها ثورة ديسمبر المجيدة، مما أدى إلى الإطاحة بنظام شمولى، مجرم وباطش وإحداثِ قدرٍ من التوازن بين قوى المجتمع وقوى النخبة الحاكمة الحالية خلال هذه الفترة الانتقالية. إلا أن الممر نحو الحرية والتطور يظل ضيقاً جداً بالنظر إلى أن الحكم الانتقالى قد ورث من النظام البائد واقعاً مأزوماً بكل المقاييس، مما يعنى أن الخروج من هذا الممر والردة نحو الشمولية أو الفوضى يظل، للأسف، هاجساً قابلاً للحدوث. وقد حدث هذا في السابق بعد ثورة أكتوبر، 1964 وانتفاضة مارس/إبريل، 1985، والذي يمكن توصيفه بـ “المتلازمة السودانية” أو “الحلقة المفرغة”، بحسب هذه النظرية.
ما أسباب تعرض المجتمعات لكوارث الخروج من الممر الضيق؟
في الغالب أسباب تعرض المجتمعات لهذه الكارثة الماحقة (أي الخروج من الممر الضيق) تتلخص في ثلاث مشكلات تعصف بالفترة الانتقالية أو فترة ما بعد الاستحقاق الانتخابي: حرب أهلية، أزمة اقتصادية أو سياسية خانقة؛ انقسامات حادة وتشرذم مجتمعي؛ وغياب محكٍم لمعالجة التباينات والخلافات بين مكونات المجتمع.
وفىَ هذا السياق يحضرني مقالان لأثنين من رجال الفكر والسياسة المرموقين. فقد حذر دكتور إبراهيم الأمين في مقال صحفي مقتضب من أن “الذهنية التي يتم التعامل بها مع قضايا البلاد الخطيرة والمعقدة عقيمة ومتخلفة، ونحن للأسف في حالة صراع مستمر دون أن نلتفت لما يترتب عليه من تبعات، يحدث هذا بعد ثورة شهد العالم بعظمتها وتفردها، مع ذلك اختلطت الأوراق وتداخلت الأحداث وتصاعدت الخلافات بين مكونات الحرية والتغيير بصورة خطيرة يسعى كل طرف إلى تعظيم مصالحه وإن تعارضت مع المصالح العليا للبلاد. شباك منصوبة يريد كل منهم أن يحقق عبرها أكبر قدر من الخسائر للآخر دون أن يدري أن الخاسر الأكبر هو الوطن.
ماذا عن المقال الآخر ؟
المقال الآخر، للأكاديمي بروفيسور مهدي أمين التوم، فقد كان بحق “صيحة في وادي الثورة”، كما أسماه، حيث خاطب كل القوى السياسية والمهنية وحركات الكفاح المسلح والقوات النظامية بضرورة العمل المشترك ونبذ التخندق في المواقف والأجندات الضيقة.
فهل يا ترى ستقوم هذه الحكومة ببذل أقصى ما تستطيع لمعالجة الأزمات التي تحيط بنا من كل حدب وصوب وهل سينهض مجلس الشركاء بدوره، كمحكٍم، لبناء تحالف قومي عريض لاحتواء الخلافات والتباينات الماثلة والمتوقعة بين مكونات الحكومة وقواعدها المجتمعية وبينها والمعارضة، حتى نستطيع البقاء في داخل هذا الممر الضيق المتاح لنا الآن بفضل هذه الثورة المجيدة والعبور إلى آفاق التطور والحرية المستدامة.
كيف تنظرون وتحللون الواقع الاقتصادي الآني في السودان وإلى أي مدى يمكن أن تسهم الحكومة في إحداث تغيير؟
لا شك أن الأزمة الاقتصادية تشكل أهم تحدٍ يواجه السلطة الانتقالية. إذاً، لابد أن تؤمن الحكومة بأن مشروعها الاقتصادي سيخرج البلاد من وهدتها الاقتصادية، وأن تطرحه بكل جدية وتدافع عنه بكل ما أُوتيت من قوة وتتحمل المسئولية السياسية المترتبة عليه.
من أين تبدأ؟
يجب أن تبدأ بالرؤية العلمية أولاً ومن ثَم تبحث عن التسويق السياسي. هذا النهج هو السبيل الوحيد المتاح لإقناع الشعب بتحمل تبعات المشروع الإصلاحي، حيث يمكن إبانة كيف يمكن في إطار هذا المشروع أن ننتقل من النقطة (أ) – وكل ما تمثله من تركة نظام الإنقاذ البائد – إلى النقطة (ب)، حيث يمكننا الخروج من حفرة عمقها أكثر من ستين ملياراً من الدولارات إلى فضاءات إعفاء الديون وإعادة تأهيل البلاد للاستفادة، كما شأن كل البلدان من حولنا، من الاستثمارات والمنح لإعادة الإعمار وبناء السلام وإطلاق النمو المستدام لمكافحة الفقر وتوفير فرص العمل للشباب.
رغم رفع الدعم تتفاقم مشكلة الوقود والخبز برأيك أين تكمن المشكلة؟
إبتداءا لابد من التنويه إلى أن تحرير المحروقات لم يتم حسب الخطة التي وضعناها عندما كنت في الوزارة، حيث كانت هذه الخطة تقضى بالتحرير الكامل لتسعير البنزين والجازولين، حيث يتم فتح الاستيراد للقطاع الخاص تحت إشراف لجنة التسعير كسلطة ناظمة لقطع دابر التهريب والتسرب وتحقيق وفرة هذه السلع الاستراتيجية، بجانب تحقيق الاستدامة المالية على صعيد الاقتصاد الكلي.
ماهى الأشياء التي أغفلها التطبيق؟
التطبيق أغفل ترتيبات هامة إحتوت عليها الخطة الأصلية، والتي نوقشت بالتفصيل في ورقة تسعير المحروقات التي أعدها فريق الدراسات والبحوث بالوزارة وقتها، هذه الترتيبات كانت تشمل إعفاءات ضريبية للشركات والمنشآت العاملة في مجالات النقل والمواصلات الحضرية وفق أسس ناظمة، أهمها إلزام هذه الشركات بتعرفة المواصلات التي تحددها السلطات الولائية وأن يكون لها سجل ضريبى. إضافة إلى ذلك زيادة اعتمادات ميزانيات التسيير لبعض الوزارات والمؤسسات العامة الحيوية لمقابلة ارتفاع كلفة الوقود حسب ضوابط معينة. هذه الخطة تستهدي بمبدأ اقتصادي هام يتلخص في رفع الدعم على مستوى الاقتصاد الكلي ولكن معالجة آثاره السلبية على المستوى القطاعي بالنسبة للقطاعات الأكثر تأثراً مثل المواصلات الحضرية. بهذا تكون هذه الخطة بمثابة ترشيد للدعم وليس رفعاً له.
على أية حال، دعنا نرجع للسؤال: لماذا تتفاقم مشكلة الوقود والخبز رغم رفع الدعم؟
أولاً بالنسبة للخبز لم يتم رفع الدعم حتى الآن، لكن المشكلة تكمن في أن الحكومة ما زالت تدعم الدقيق بموارد تضخمية. فقد قفز سعر صرف الدولار من 265 إلى 310 جنيهاً في فترة وجيزة خلال شهر يناير كنتيجة لتمويل مشتروات القمح بموارد غير حقيقية تقدر بحوالى 12 مليار جنيهاً، بحسب بعض المصادر المصرفية. بالنسبة للدقيق يجب أن توفر الدولة القمح بحكم مسئوليتها عن الأمن الغذائي، لكنها يجب أن تخرج من خدمات المطاحن والمخابز لأن خدمات المطاحن والمخابز ربما تساوي أكثر من ثلاثة أضعاف سعر القمح. ومن ثم تتم معالجة أوضاع الشرائح الضعيفة بالدعم المباشر أو أية آلية أخرى تضمن وصول الدعم للمستحقين.
والمحروقات؟
بالنسبة للمحروقات، فإن الذي حدث هو ليس رفعاً للدعم بالمعنى، لكنها خطوة في هذا الاتجاه. فقد قامت الحكومة بتسعير المواد البترولية (الجاز والبنزين) وفق سعر صرف العملة السائد حينها في السوق الموازي (265 جنيهاً)، فتوفرت السلع واختفت الصفوف واستقر سعر الصرف نسبياً لمدة شهرين تقريباً. حسب ما علمت من بعض الخبراء المصرفيين، حينما لجأت وزارة المالية لتمويل الخبز بالطباعة في مطلع يناير المنصرم، تحرك سعر الصرف نتيجة لعرض النقود. لم تصاحب حركة سعر الصرف حركة مماثلة في أسعار المحروقات ولذلك أحجمت الشركات عن البيع وبالنتيجة أطلت الأزمة برأسها من جديد وعادت الصفوف.
كيف يمكن أن تختفي هذه الأزمة ؟
برأيي، سوف تختفي الأزمة لو تم التحرير الكامل وليس مجرد رفع الدعم، لأنه إذا أصرت الحكومة على تحديد الأسعار ففي هذه الحالة رفع الدعم لا يعني التحرير. بالمقابل، إذا تم الالتزام بالخطة الأصلية التي وضعناها يمكن تحصين القطاعات الأكثر تأثراً مثل المواصلات الحضرية والنقل بالترتيبات القطاعية التي أشرنا إليها أعلاه.
لماذا لم يؤدِ رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب وفك الحصار إلى تحسين الوضع الاقتصادي؟
بالتأكيد هذه إنجازات هامة ولكنها تظل عوامل مساعدة (catalyst factors) فقط. معالجة أزمة الاقتصاد وبالتالي تحسين معاش الناس والتطلع في المدى المتوسط والبعيد إلى إعادة إطلاق نمو عريض القاعدة ومستدام يؤدي إلى توفير الوظائف ومكافحة بطالة الشباب والفقر، كل هذه تتطلب مشروع إصلاح اقتصادي مدروس. فمثلاً، خلال الأربعة أعوام الأولى من حكم الرئيس موسيفينى (1986-1990) في يوغندا كانت الأوضاع تماثل تماماً وضع السودان الحالي، حيث كان سعر صرف الدولار في السوق الموازى يساوى أكثر من أربع مرات السعر الرسمي، بينما أتى التضخم الانفجاري على القوة الشرائية للمواطنين، رغماً عن المساعدات والدعم الذي تمتع به نظام موسيفني وقتها وما يزال. ولكن بعد تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي شامل في العام 1990 تمكنت يوغندا من توحيد سعر الصرف وتصفية السوق الموازي وانخفض التضخم إلى أرقام أحادية خلال نفس العام. كما يقول الخبراء، منذ ذلك التأريخ لم تلتفت هذه الدولة الأفريقية إلى الوراء، حيث نما اقتصادها بمعدل 7% بصورة متواترة لحوالى 15 عاماً. (بالطبع لا أقصد هنا تمجيد ذلك النظام، ولكن فقط أشرت أليه في سياق تجربة الإصلاح الاقتصادى تحديداً).
هل توجد شروط دولية أخرى لتقديم مساعدات مالية السودان؟
حسب علمي، “البرنامج المتبع من قبل منسوبي الصندوق الدولي” الموسوم SMP هو المرجعية المعتمدة. فإن تنفيذ هذا البرنامج سينقل البلاد إلى آفاق غير مسبوقة تنفض عنها إصر تركة الإنقاذ الاقتصادية الكارثية في خلال سنة على أقصى تقدير، حيث يُتوقع الانضمام لمبادرة الدول قليلة الدخل، المثقلة بالديون HIPC، لإعفاء ديون السودان البالغة أكثر من 60 مليار دولار والتي من المأمول أن تُخفض إلى أقل من 15 ملياراً. تسديد متأخرات الديون لمنظمات التمويل الدولية وإعادة الانضمام للجمعية الدولية للتنمية IDA والحصول على منحة سنوية بحوالى مليار دولار كدعم مباشر للموازنة. تدفق الاستثمارات المؤسسية – على سبيل المثال من قبل مؤسسة التمويل الدولية بالبنك الدولي وصندوق التنمية الأفريقي التابع لبنك التنمية الأفريقي – التي عادة ما توفر التمويل لمشاريع التنمية الاستراتيجية وبذات الوقت تمكن الدول من جذب الاستثمار الخاص.
نقلا عن صحيفة التيار