اذا صحت الاخبار المتداولة في الاسافير عن اختفاء بعض الفتيات وعودتهن متزوجات، فهذا ليس دليل وعي وانما مرض اجتماعي يجب علاجه، لن اتحدث عن الأسباب الأسرية التي قد تحرم الفتاة من الزواج ممن ترغب فيه، فهذه تمت مناقشتها كثيرا وتم تنبيه الأباء والأمهات إلى عدم الاجبار والقهر وإنما الحوار والتبرير. وساناقشها من ناحية سيناريو هروب الفتاة من أسرتها وعودتها بخاتم الزواج مهما كانت الأسباب.
فالهروب في نهاية الأمر قرار فردي من الفتاة والفتى وليس قرار مجتمع، وهو بغض النظر عن الاسباب خروج على الثقافة السائدة والأعراف والتقاليد، وممارسة لا يمكن تسميتها بالحرية، ولا يمكن تسميتها بالاختيار الشخصي، فالشخص ليس فرد في المجتمع السوداني وإنما امتداد اسري متكامل، ما يمسه لا يمسه لوحده وإنما يمس أسرته واهله وجيرانه وقريته والحي الذي يسكنه وقريته وديانته، الفرد هنا في بلادنا وثقافتنا ليس روح وحيدة في كهف معزول يمكنها أن تفعل ما تشاء وإنما هي روح اجتماعية مقيدة إلى ثقافة وعرف وقرابة وانتماء، الخروج من كل ذلك ليس حرية وتطور وإنما هدم لصلات أهم من حياة الفرد الذاتية، صلات كالمودة والقربى والتكافل والتراحم، صلات مطلوبة موروثة ومشروطة في المجتمع لا يعطيها بلا معنى ولا محددات.
من أرادت أن تخرج على طبيعة المجتمع السوداني بهذا الهروب تقليدا لثقافة مجتمعية في دول أخرى كالدول الغربية فعليها أن تعلم أن المرأة الغربية اذا خرجت من أسرتها لا تعود، بل تنفصل بذاتها، وهي تخرج عن صلات الأسرة ليس بدافع الزواج فقط وإنما بدافع العرف نفسه، فهذه ثقافتها وعرفها الطبيعي الذي اوجدته مئات السنوات من صناعة هذا النمط من الحياة والثقافة الاجتماعية، وبالتالي وإن نهض المجتمع الغربي فلا يمكن أن نعزو تطوره لثقافة خروج البنات على الاسر واستقلاليتهن، فليس ثمة رابط بين الاثنين، والدليل ان الدولة الإسلامية التي حكمت الشرق والغرب لقرون عدة وكانت أعظم بلاد الأرض حضارة وقوة في القرون الماضية لم تكن من بين ثقافاتها وعرفها من الصعود الى السقوط خروج النساء على المجتمع ولا خروج الرجال كذلك.
العتب ليس على الفتاة التي هربت فقط، وإنما على الفتى الذي استجاب لهذا الخروج على المجتمع بدافع ذاتي للزواج، فهو يتناسى انه يغزي صفة ذاتية منكرة وهي الانانية، وهي من الصفات التي لا تغذيها طبيعة المجتمع السوداني المبنية على الصلات والعرف التعاوني والتواصل والثقة، وهذا الفتى بقبوله تغذية ما يراه حبه الحياتي هو في الحقيقة يغذي غول الانانية والبحث عن إرضاء الذات في مجتمع يؤثر الجماعة على الفرد والعام على الخاص، وهي صفات مجتمعية أصيلة مجرب أثرها المفيد والصالح ولا يمكن انتقادها او وصفها بالتخلف والرجعية، وهي للحقيقة قمة تجلي كينونة الإنسان، فالانسان كائن اجتماعي وليس فردي.
هل غذت الثورة مفاهيم جديدة في عقول الأجيال الجديدة مخالفة لفطرة السوداني؟ هل قامت بتحفيزهم على هدم الثقافة التاريخية وبناء ثقافة جديدة مفارقة للوجدان السوداني الاصيل؟ اذا كانت الإجابة نعم فيجب أن نعترف بأن هذا المسار ليس مسار الثورة المرتجي، وانه مهدد للوطن بفقدان السمات المميزة لشخصية الإنسان السوداني التي غذتها السنين وحصنها التاريخ، وأن الأمر في حاجة للمراجعة من علماء الاجتماع الثوار. نعم لثورة سياسية مسارها متجه نحو تغيير مفاهيم الحكم والسلطة، لا لانقلاب ثقافي يغير ملامح السودانيين وثقافتهم التاريخية.
sondy25@gmail.com