أرى أن الحكومة الانتقالية (الثانية) في السودان باعلانها اليوم (٢١ فبراير ٢٠٢١) توحيد سعر صرف الجنيه السوداني اتخذت خطوة يمكن وصفها بأنها محاولة أولى مهمة وشجاعة ،تخاطب الواقع بشفافية ،بعيدا عن أساليب دفن الرؤوس في الرمال.
وجود أكثر من سعر للدولار في السودان، (سعر حكومي واهم وكاذب وآخر يفرض سطوته على الواقع) ، يعبر عن حالة مرضية مزمنة ،ويعكس ظاهرة تؤكد عدم الاحتكام الى نهج واقعي عملي في مواجهة حقائق الواقع .
أعيد للأذهان الحقيقة الملموسة أن حكومة الفترة الانتقالية (الأولى) افتقرت في كثير من مواقفها وسياساتها (الاقتصادية والسياسية) الى الشفافية الضرورية التي تحترم حقوق الشعب عندما تتخذ القرارات الصعبة في سبيل صناعة مناخ وركائز الانتقال والتحول نحو الديمقراطية.
الأمثلة كثيرة، وليس الآن مجال سردها، غابت في الفترة السابقة أيضا الجرأة والشجاعة في اتخاذ القرارات المستمدة من نبض الشعب الذي فجر ثورته الباهرة ، وساد نوع من التردد والضعف ،وأطل نهج الحديث بلسانين في عدد من المواقف.
قرار اليوم يؤشر الى أن حكومة الفترة الانتقالية (الثانية) بدأت تخطو خطوة نحو الجرأة والشفافية ،اذ أطل وزيرا المال دكتور جبريل ابراهيم و التجارة السيد علي جدو ومحافظ بنك السودان المركزي السيد الفاتح زين العابدين في مؤتمر صحافي ، و اعلنوا تفاعلات توحيد سعر الصرف.
قلت في اطلالة تلفزيونية في قناة فرنسا ٢٤ في وقت سابق أن السلطة الانتقالية في مرحلتها (الأولى قبل تشكيل الحكومة الانتقالية الثانية الحالية) قد انتحرت سياسيا ، وهذه السلطة تضم مجلس السيادة والحكومة الانتقالية الأولى.
ما زلت متمسكا بهذا الرأي لأن السلطة الانتقالية في مرحلة ما قبل الحكومة الانتقالية الثانية الحالية اتخذت سياسات واتبعت ممارسات انتهكت المؤسسية ،وضربت الشفافية في مقتل، وركنت الى نهج (الأنا) .
الآن أمام (السلطة الانتقالية) التي اتسعت لتضم (شركاء الفترة الانتقالية ) ويشمل ذلك مجلس السيادة والحكومة في مرحلتها الثانية فرصة في ضوء تطورات و متغيرات محلية واقليمية ودولية أن تضع سياسات تنفذها بنهج العمل الجماعي وبلغة الشفافية، بعيدا عن نهج (الأنا) الذي سيدمر من يتمسك به.
هذا يعني في ضوء قرار اليوم أنه اذا وضعت الحكومة الانتقالية (الثانية) سياسات واضحة ونفذتها فورا لامتصاص الآثار السلبية المتوقعة لخطوة توحيد سعر الصرف، فانها تكون قد راعت أحوال الشعب المطحون حاليا بغلاء أسعار سلع ضرورية للحياة ، حيث تتضاعف الأسعار يوميا ،بل تنعدم وتنقطع امدادات خدمات حيوية كالكهرباء والماء ،والمواصلات، ويأتي الخبز في صدارة الضروريات التي اختفت في عدد من المناطق ، مرة بسبب نقص الدقيق، وأخرى كنتيجة لانعدام الغاز.
اذا لم تكن للحكومة خطط واقعية وعملية وملموسة لتوفير السلع وخدمات ضرورية والدولار لاعادة التوازن تدريجيا للجنيه المترنح حاليا وللأسعار، فان الحكومة الانتقالية( الثانية) تكون قد سعت الى حتفها بظلفها.
في هذا السياق أيضا أمام حكومة الفترة الانتقالية (الثانية) فرصة التعلم من دروس فشل الحكومة الانتقالية الأولى ،اذ بدا ذلك واضحا في استمرار التدهور الاقتصادي واحالة حياة الناس الى جحيم مع عدم احترام المؤسسية.
في الفترة السابقة هناك من ينازع وزراء في صلاحياتهم، وكان هناك في مجلس السيادة والحكومة الانتقالية الأولى من يتجاوز صلاحياته من دون ان يرف له جفن .
الشفافية أيضا غابت بشأن عدد من الملفات الساخنة ، ولهذا فشلت السلطة الانتقالية في مرحلتها الأولى في استقطاب رأي عام يدعم خطاها، ولعل في التناقض بين سياسات الحكومة الأولى وموجهات اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير على سبيل المثال ما يكشف عدم احترام نهج العمل الجماعي.
يحسب للحكومة الانتقالية (الثانية) أنها خرجت من خلال وزيري المال والتجارة ومحافظ بنك السودان لتعلن قرار توحيد سعر الصرف.
لكن هل وصلت الرسالة الى كل السودانيين؟
ما زالت قضية الرسالة الاعلامية التي تصل الى السودانيين داخل وخارج السودان في توقيت مناسب وتمهد للقرارات الصعبة قبل صدورها وتتفاعل مع القرارات الجديدة بمهنية تحترم عقول الناس تراوح مكانها .
مازالت مسألة المضمون الاعلامي المواكب للتطورات تشكل احدى أهم التحديات، اذ لا يكفي ان يطل رئيس الحكومة دكتور عبد الله حمدوك او الوزراء ليعلنوا قراراتهم ومواقفهم من دون سعي مبكر ومستمر لتشكيل رأي عام مستنير ومتفاعل ومتفهم للخطوات الصعبة.
في هذا السياق يطل سؤال: هل وصلت رسالة الحكومة( الثانية) بشأن اعلان توحيد الصرف للمواطنين فور اعلان القرار؟
واقع الحال يقول أن الكهرباء كانت مقطوعة عن عدد من المناطق وفي الخرطوم -اذا (نسينا) سكان الاقاليم حيث معظم أهل السودان- في اثناء انعقاد المؤتمر الصحافي لاعلان القرار الصعب !
السؤال: الى من توجه الحكومة رسالتها الاعلامية بشأن توحيد سعر الصرف وقضايا أخرى ، هل هي تخاطب نفسها، أم شريحة محدودة من الناس، اذ ان متابعي بث تلفزيون السودان وقنوات أخرى خارج السودان ربما يفوق عدد مشاهديها في الداخل بسبب انقطاع الكهرباء وأسباب أخرى.
وفروا الكهرباء والماء والخبز والدواء والمواصلات …
أرى أن من أهم ساحات( الانجاز ) التي قد توضح مدى جدية ونجاح الحكومة الانتقالية (الثانية) ولا تحتاج الى توفير ( دولارات ) أو توحيد لسعر الصرف تكمن في (تنظيف) العاصمة المثلثة من (أوجه القبح) المنتشرة والمتراكمة في شوارع وأحياء ، اذ كانت العاصمة نظيفة وجميلة قبل سنوات عدة.
هذا معناه ،ليس بتوحيد سعر الصرف وحده ينصلح الحال، ما يعني أن تتكامل أدوار كل المؤسسات الحكومية وخصوصا العدلية والأمنية والعسكرية لتحقيق فترة انتقالية ناجحة، تسودها الحرية والسلام والعدالة للجميع.
محمد المكي أحمد