وزير الاقتصاد السوداني الأسبق: البلاد تحتضن بحيرات ضخمة من النفط لم يكشف منها إلا القليل
البروفسور محمد هاشم عوض
كمال إدريس
كان أول من أطلق شعار «السودان سلة غذاء العالم العربي»، مستندا الى معطيات يلمسها كوزير للاقتصاد إبان حكومة جعفر نميري، فأراضي السودان البالغة مليوني ميل مربع والمهيأة للزراعة الطبيعية لم تستخدم منها سوى 17 مليون هكتار، بينما هناك 68 مليونا لا تزال أراضي بكرا، تماثل مجموع الأراضي الزراعية في كل البلدان العربية الأخرى. لكن بعد مرور أربعة عقود من الزمان، هل لا يزال السودان قادرا على ان يكون سلة غذاء العالم العربي؟
كانت الإجابة عن هذا السؤال ضمن الحوار الذي أجرته «الشرق الأوسط» مع البروفيسور محمد هاشم عوض، وزير الاقتصاد السوداني الأسبق، في جدة خلال مشاركته في منتدى الاقتصاد الإسلامي الذي احتضنته جامعة الملك عبد العزيز أخيرا.
تعيش الكثير من دول العالم حاليا مشاكل في توفير الغذاء في ظل الأراضي المحدودة والزيادة السكانية المطردة، وهنا يجدر ان نبادر بالسؤال عما إذا كان إيمانكم لا يزال قائما بإمكانية تحول السودان الى سلة غذاء العالم العربي؟
ـ أود التوضيح في البداية بأنني اعتمدت في إطلاق ذلك الشعار «السودان سلة غذاء العالم العربي» على بيان صادر من منظمة الأغذية العالمية عام 1976، وقد تنبأت المنظمة حينها بأنه في هذا القرن الذي بدأ قبل ثماني سنوات، ستكون ثلاث دول المصدر الرئيسي للغذاء لبقية دول العالم، وهي بالترتيب السودان وكندا واستراليا، ويمتلك السودان موارد زراعية ذاخرة. عندما كنت وزيرا للاقتصاد وتوليت قضية السياسات الاقتصادية في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري رفعت شعار «السودان سلة غذاء العالم العربي» الذي أطلق خلال حقبة الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وهددت دول غربية بقطع الغذاء من الدول العربية، فبادرت وقتها بالاتصال بالمسؤولين العرب، موضحا لهم أن السودان يعرض موارده الطبيعية لأشقائه العرب، وبالفعل شهدت الفترة استثمارات عربية عديدة في السودان لأول مرة، وهذا قاد الى أن يتحقق شعارنا ولو بشكل جزئي حتى ارتفع دخل الفرد في السودان الى نحو 850 دولارا، ودخلت البلاد ضمن أعلى الدول من حيث مستوى دخل الفرد.
المشهد الآن أن السودان من أدنى الدول في سلم الفقر، فلماذا تعزو ذلك؟
ـ مع الأسف الشديد بدأ مسؤولون في تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي وسياسات التحرير الاقتصادي، وهذه السياسات في أصلها سياسات انكماشية جعلت الاقتصاد السوداني ينحدر، فانخفض بالتالي دخل الفرد السنوي الى اقل من 370 دولارا، أي اقل من نصف الدخل الذي تحقق.
ومن مساوئ اتباع سياسات الصندوق واتباع ما سمي بسياسات التحرير الاقتصادي التي طبقت في ما بعد ظهور الفوارق بين طبقات المجتمع، وهذه الفوارق خطيرة ويمكن أن تأتي بالأحقاد والوبال للبلاد، ولكن رغم ذلك لا يزال السودان قادرا على النهوض اقتصاديا بسبب الموارد الطبيعية الضخمة، ولا تزال إمكانية تطبيق الشعار قائمة، فبالإضافة إلى الموارد الزراعية فان البلاد تحتضن بحيرة ضخمة من النفط لم يكشف منها إلا القليل وفي مناطق الجنوب، بينما تشمل حقول الشمال والوسط كميات أضخم، توضحها خرائط تبين أيضا وجود الكثير من المعادن الثمينة تحت هذا المليون ميل مربع.
كيف تقيم السياسات الاقتصادية التي تطبقها الحكومة الحالية؟
ـ السياسات الاقتصادية التي بدأت بها الحكومة الحالية والتي سميت بسياسات التحرير الاقتصادي استهدفت أساسا تحجيم دور الدولة، والاعتماد على القطاع الخاص، وتناسى منظرو هذه السياسات ان القطاع الخاص في السودان يحتاج الى دعم الدولة التي هي الداعم الأساسي والضامن للقطاع الخاص والحامي لمنتجاته، لكن القطاع الخاص ليس لديه من الموارد التي تمكنه من إدارة المشاريع الضخمة مثل مشروع الجزيرة على سبيل المثال، ولا يمتلك الخلفية الفكرية لعمل صناعات او خدمات متطورة، وهذا لا يعني أننا ضد القطاع الخاص، ولكن المقصود ان القطاع الخاص متى ما أصبح قادرا على الدخول في قطاع معين يتم تمكينه من ذلك، ونستشهد هنا بتجربة العديد من الأطباء من ذوى الكفاءة الذين بادروا بافتتاح مستشفيات راقية لتقديم الخدمات العلاجية استنادا على الإمكانيات المادية والخبرات المتميزة لديهم.
لكن للأسف، فقد عمد المسؤول الى بيع مؤسسات القطاع العام بأثمان بخسة الى للقطاع الخاص، فأخبرناه أن أول شيء وقبل أن يبدأ في البيع عليه ان يقيم سوقا للأوراق المالية، يعرض فيها أسهم المؤسسات المراد بيعها ضمن منافسة حرة مابين الناس، لكن يبدو أن الأمر لم يكن اعتباطيا، وهذا فاقم من شقة التباعد ما بين الأغنياء والفقراء، واظهر الفوارق الطبقية التي نحذر من شرها، وكانت النتيجة تحطيم المصانع ومؤسسات الدولة الكبرى. نحن نرى ان الدولة من حقها ان تحتكر لكن وفق ضوابط، وكنا قد وضعنا قانونا لمنع الاحتكار، لكنهم الآن جمدوه، وأرسوا ملكية تلك المؤسسات لعدد محدود من الناس.
الأسوأ من ذلك أننا كنا قد نجحنا في تنمية القطاع التعاوني وانتشرت التعاونيات وقامت بالعديد من النجاحات في قطاعات الزراعة والصناعة وغيرها، ورغم كل شيء أؤكد أن السودان لا يزال زاخرا بموارده، وهذا يتطلب تشجيع القطاع الخاص والقطاع التعاوني وفق اسس ادارية ناجحة، خاصة ان هناك العديد من الأشياء التي لا يستطيع القيام بها الا القطاع الحكومي، ويمكنني القول إن البلاد موعودة بخير في الأيام المقبلة. > دخل السودان منذ سنوات قليلة نادي الدول النفطية بإنتاج نحو نصف مليون برميل يوميا، هل تعتقد أن الإيرادات المضافة على الموازنة العامة للدولة تتجه بطريقة صحيحة نحو أهدافها المفترضة؟
ـ النفط رغم انه ثروة ناضبة لكنه يتميز بأنه يأتي بالإيرادات الضخمة، التي يجب ان توظف في الجوانب الاستثمارية بإقامة المشروعات والصناعات أو في الجوانب الخدمية مثل المستشفيات، والتعليم وغيرها من الخدمات التي توفر الرفاه للمواطن، لكن للأسف الشديد أن إيرادات البترول لم تنعكس على الفرد السوداني حيث ان توزيع الدخل لم يكن عادلا بين الفئات، وعلى الرغم من انه ارتفع بطريقة غير مباشرة، إلا ان الفقراء لا يزال دخلهم كما كان دون تغيير. وعلى الرغم من أن أهل السودان معظمهم يصنفون ضمن الطبقة المتوسطة لكن هناك طبقة فقيرة واسعة جدا، وتوجد طبقة عليا صغيرة جدا. في شرق السودان تشير الأبحاث الى وجود كميات كبيرة من النفط تنتظر الاستخراج والتصدير، لكن لا يزال الناس يعيشون مستوى معيشة متدنيا والخدمات ليست بالمستوى المطلوب.
المؤسف أن مظاهر الطبقية أصبحت أمرا واضحا في السودان، ومن المعلوم ان محاربة الفقر أمر أساسي في الإسلام وان العدالة في توزيع الثروات هي المخرج الوحيد من الأزمات في السودان. لكن ما يحدث يخالف ذلك، فالزكاة في الإسلام تبين ان يؤخذ من أموال الأغنياء ليعطى للفقراء، لكن في بلادنا يحدث العكس حيث يؤخذ من الفقراء ومعظمهم من المزارعين والرعاة، فيزداد الفقير فقرا والغني غناً، كما ان الدين حدد نسبة العاملين على الزكاة بالثمن، لكن الواضح ان العاملين على الزكاة في السودان يأخذون 40 في المائة، نسأل الله ان يتم تعديل هذا الوضع مع الإرهاصات بعودة التعددية.
وأود ان أشير هنا الى أن السودان بلد غني بثرواته، لكن المشكلة الأساسية تكمن في كيفية ادارة هذه الثروات، والوطن مليء بأبنائه العلماء القادرين على القيادة، فعلى سبيل المثال لدينا من العلماء من خريجي كليات الزراعة والاقتصاد الزراعي لديهم القدرة على إنشاء المشاريع الزراعية وإدارتها وتطويرها وزيادة المحاصيل النقدية، الى جانب عشرات الخريجين في مجال المصارف والاستثمار والتعاون وغيرها، ومن طلابنا من يختار مشروعا محددا ويجري عليه دراساته العليا في قطاع معين ويصل الى درجات عالية في تطويره. هكذا دراسات تكتظ بها الجامعات السودانية، ولكن هل استغلت هذه الدراسات عمليا لتطوير البلد، للأسف لا.
موعد إجراء الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب يقترب أكثر فأكثر، هل تعتقد أن الجنوبيين سيختارون الانفصال؟ ـ لا أرى أن من مصلحة الجنوب الانفصال عن الوطن لعدة اعتبارات، لأن هناك من يرى ان انفصال الجنوب يأتي لخير الشمال، فالجنوب حتى حين يمتلك النفط فهو سيكون في أراض مغلقة ليس لها اي منفذ بحري، لكن هناك أمرا آخر وهو حقيقة يجهلها الكثيرين فكمية النفط المتوفرة في الشمال تمثل أضعاف ما في الجنوب، والدراسات المتوفرة تشير الى ان السودان يعوم فوق بحيرة من النفط فيبقى السؤال «كيف نستغل هذه الثروات في ظل السودان الموحد؟».
ثم إن السودان في ترتيب دول العالم من حيث المساحة يحتل المرتبة العاشرة، واذا انفصل الجنوب سيتأخر درجة واحدة فقط ويحتل الدرجة الحادية عشرة، ولن يشكل هذا فرقا للشمال، لكن المشكلة ان الجنوبي هو الذي سيضار في ظل بروز المشاكل القبلية بين الشلك والدينكا، خاصة ان الأخيرة هي الأكثر هيمنة على الجنوب، كما سيبرز سؤال مهم مفاده «هل سيعود الجنوبيون الذين استوطنوا في الشمال الى مناطقهم الأصلية؟».
وماذا عن قضية دارفور التي تُدولت وصارت القضية الأولى في العالم الآن؟
ـ من الأمور غير الموفقة ان الحكومة الحالية عندما برزت مشكلة غرب السودان حاولت ان تحلها بواسطة الجنجويد، وهم آخر الأعراق العربية الوافدة الى السودان، واستوطنوا في دارفور وتعايشوا مع قبائل الفور لدرجة أنهم كانوا ينزحون في الخريف نحو الجنوب طلبا للأمطار والمراعي لمواشيهم، ويتركون أسرهم في رعاية الفور، وهذا دليل على كرم الضيافة لدى الفور، لكن لم يكن من الحكمة ان تترك اهل المكان الأصليين وتعضد آخر القادمين إليه، فتلك لم تكن سياسة حكيمة إطلاقا، لكن نأمل إذا توقفت الحرب أن يعود الناس