ربما كان هناك شبه إجماع تام وسط مكونات صانعي القرار السوداني على تسليم الرئيس الأسبق عمر البشير للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي وربما هناك أيضا شبه ارتياح شعبي وسط جماهير الثورة لذات المنحى مع اعتراض واضح ومعلن من مؤيدي النظام البائد للخطوة ذاتها تحت ذريعة النخوة السودانية بأن “هذا ابن بلدنا ولن نسلمه للغير مهما كان طالما أننا نتمتع بقضاء مستقل ومؤهل” كما روي عن الرئيس السابق ل 24 ساعة الفريق زين العابدين ابن عوف.
غير أن جميع المؤيدين لتصدير القضية للخارج يغفلون – فيما أرى – بعض ما يترتب عليها وربما يضر بقضايا أخرى هي من صلب قضايا الوطن والثورة.
تسليم البشير – على قانونيته الدولية – سينبني عليه تأجيل إدراج أسماء العديد من شركاء جرائم الحرب في دارفور وجرائم حرب الابادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية علاوة على سلسلة لا تنتهي لمجرمي انقلاب ٨٩ وشهداء حركة رمضان وضحايا فبركة العملة وانتفاضة 2013 ومجزرة العيلفون وشهداء كجبار وأمري والقتل بالخابور واعتصام القيادة وحركة الأبيض وربما إفلات كثيرين من التحقيقات التي ما زالت جارية وربما تستمر ما كان النيل جاريا وهو تأجيل يمكن أن يحدث فجوة قانونية على خلفية اختفاء المتهمين الأساسيين حتى الآن : عمر البشير واحمد هارون وعبدالرحيم محمد حسين.
تجربة إيداع رابعهم علي كوشيب ردهات المحكمة الدولية تفيد أنه ليس لها تداعيات إيجابية على سير القضاء داخل البلاد أو سلبية على مطلوبين آخرين في السودان إذ لم نسمع أن الجنائية قد طلبت او قد تطلب فلانا او علانا ورد اسمه كشريك او متواطئ مع كوشيب في جرائم الحرب التي لا يمكن أن يكون قد خطط لها ونفذها لوحده.
الشيء نفسه سيحدث اذا ما أودع البشير ورفاقه القضبان السويسري الرقيق وهو ما يخطط له من خلف الكواليس كافة شركائه السابقين الحاكمين الحاليين الذين تسربت أنباء صحفية بأنهم علاوة على أنهم يريدون لزعيمهم الذي علمهم سحر الحكم الطويل محاكمة راقية على مسرح أممي ، عقدوا يوم تواثقوا في جوبا صفقة تبادل البراءة الدارفورية مقابل المشاركة الدائمة في الحكم ليس في الانتقالية فحسب بل ما بعد المرحلة الحمدوكية.
إبقاء البشير وزمرته خلف قضبان كوبر الى حين من شأنه أيضا تأجيل معركة اسفيرية مع معارضي تدويل القضية لا داعي لها الآن لحين الإنتهاء من معارك ذات أولوية مثل معاش الناس وإجراء عملية جراحية للوضع الاقتصادي العام والتحول المدني للسلطة واستتباب السلام الحقيقي والقضاء على الفساد علاوة على أن أعوان النظام المترنح يبحثون عن قشة طافية تنقذهم من الغرق.
كما أن تسفير البشير قد يربك عمل لجنة تفكيك النظام واسترداد الأموال المنهوبة التي تجد في وجوده بين قضبان الحي الذي ترعرع فيه فرصة مساءلته وآخرين مرتبطين بوجوده لتفكيك بعض الصواميل الصادئة بعكس كونه بالخارج الذي سيجعل الاتصال به عرضة لبيروقراطية بلا حدود.
إن ما يتعين على النيابة والقضاء السوداني الكسيح – نسأل الله له التعافي – عمله لإنجاز استجواب ومحاكمة البشير ورفاقه وربما 51 آخرين هو إسراع إيقاع التقاضي معهم بالسودان حتى يغطي كافة جرائم النظام المباد وليس فقط الدارفورية بشرط الانتهاء منها جميعا قبيل انتهاء الفترة الانتقالية.
خلال تلك الفترة التي قد تتطلب عامين آخرين يكون شباب الثورة وعموم شعب السودان قد تعلم الدرس الأهم المستفاد بأنه لا أحد فوق القانون السوداني وأن تطبيق القانون الدولي – الذي نحن جزء منه – لا يتم قبل أن يستنفد المحلي دوره. فكما أننا نطالب الشرطة الدولية بتسليمنا هاربين سودانيين للعدالة داخل بلادنا بعد أن يستوثق الإنتربول أمرهم فسوف نلتزم بتسليم مطلوبين للعدالة الدولية بعد أن نستكمل حلقاتها المحلية.
إذن النقطة الأهم في هذه القضية ألا يستفيد مجرم بالسودان من غياب البشير وشركائه في جرائم في حق الوطن تطال الفساد والاغتيال والتآمر والنهب باسم الدين. كما لا يخسر الشعب السوداني قضاياه المتعددة كاملة الأركان ضد البشير لينعم بمحاكمة خمسة نجوم قد تنتهي بالبراءة أو الحكم بسجن مخفف لغياب كثير من الأدلة. فلا يظنن أحد أن مجرد تسليمه المحكمة الدولية معناه الحكم السريع الأقصى قضائيا الذي يروق للثوار سماعه عبر البي بي سي.
البشير مدان بجرائم واضحة كالشمس في وضح النهار مثل انقلاب ٨٩ ودفن ضباط حركة رمضان أحياء ورغم ذلك يستمع قضاته لمزاعم تشير الى غير ذلك ويتعاملون مع دفاعه المستميت لشراء الزمن بهجمات مرتدة ضعيفة فما بالك بمحكمة دولية لن تقنع بغير شهود عيان من دارفور نفسها أي من خصوم الأمس المنغمسين حتى الثمالة مع ورثة البشير في اقتسام كيكة الانتقالية.
استراتيجيا يجب أن يقال للجنائية الدولية سمعا وطاعة سنأتيكم به مكلبشا عن قريب وتكتيكيا يجب أن يواصل القضاء السوداني مغازلته – كما يبدو – جرائم سفاح القرنين قبل تحويل رفاته محكوما عليها بالاعدام أو جسده محكوم عليه بالسجن أيا كان.
البشير قد انتهى كحاكم الى الأبد ولكن الغرض من محاكمته سودانيا أو دوليا أو إندماجيا يجب أن يكون ، بالإضافة الى إحقاق الحق ، تلقين عسكر اليوم والحركات المتمردة درس الماضي القريب بإفساح المسرح للحكم المدني للأبد من جهة وإعادة ترميم البنية القضائية والنيابية والشرطية بعناصر أكثر التزاما بالنزاهة والحيادية والشفافية من جهة أخرى.
الرياض