….
قـبل أيام كنت في السوق حين قابلني شاب مؤدب ومثقـف أخبرني أنه معجب بـي..
أسمعني مديحاً وكلمات إشادة أصابتني بالدوار ورفعت رأسي فوق السحاب..
وفيما كنا نتحضر لالتقاط سلفي شعرت بصفعة على مؤخرة رقبتي من شخص يقول:
“كيفك يا ولد لطيفة؟!”..
كان صديقاً مزعجاً من أيام الحارة، يعرفني حق المعرفة، ولم يعترف يوماً أنني من يكتب في صحيفة الرياض..
أصبحت لدقائق بين رجلين ينظران إلي بطريقة مختلفة؛ الأول: يعرفني من بعـيد ورسم لشخصي المتواضع صورة مثالية ونموذجية رائعة (لا أستحقها بدون شك)..
والثاني: يعرفني منذ الطفولة ويعتبرني مجرد صديق قديم يحتفظ له بمواقف محرجة (وذكريات تفشل) ولا يعنيه كيف أصبحت اليـوم..
هذه المفارقة تفسر لماذا نتهاون ونتطاول على أقرب الناس إلينا؛
فـمعرفتنا له عن قرب تجعلنا نستخف بآرائه وأفكاره وإنجازاته..
لا يعترف عقلنا الباطن بنجاحه وتفوقه علينا لأن اعترافنا يعني تلقائياً تخـلفنا عنه، ونحن الذين انطلقنا معه من خط واحد..
لهذا السبب تلاحظ ــ حتى في قصص الأنبياء ــ أنه؛
“لا كرامة لنبي في وطنه”..
ولهذا السبب قال أبو لهب لنبينا الكريم:
“تـبا لك ألهذا جمعتنا”..
ولهذا السبب طرده أهل مكة في شعب بني طالب في حين استقبله أهل المدينة بالأناشيد والأهازيج وقاسموه أرضهم وأموالهم..
تأمل سـير العباقرة والمبدعين تلاحظ أنَّ كثيراً منهم حظي بالتكريم والتقدير في غير مجتمعه الذي ولد فيه
وخذ كمثال:
ابن سينا
والرازي
والبخاري
ودافنشي الذي غادر إيطاليا وحظي برعاية ملك فرنسا حتى مات.
طبيعتنا البشرية تجعلنا لا نقارن أنفسنا بمن لا نعرفهم شخصياً (كأثرياء العالم الذين تنشر مجلة فوربس أسماءهم كل عام)..
ولكننا نقارن أنفسنا بأصدقائنا وأبناءِ عمومتنا الذين حققوا ثروة كبيرة أو نجاحاً مميزاًـ في حين لاتزال أنت ثابتاً في مكانك..
لا يهمك إن نـال مراهق فرنسي الدكتوراة من جامعة السوربون، أو تحدث طفل صيني عشر لغات، المهم ألا يفعل ذلك قريبك الذي تربيت معه أو صديقك الذي تشيد به والدتك دائماً..
وما يبدو لي أن هناك علاقة بين مستوى القرب، واعـترافنا بتفـوق الآخرين..
فكلما ارتفع مستوى قربك من أحدهم كنت ميالاً لتجاهل نجاحه وتفوقه، وكلما ابتعد عـنك قدرته بشكل أفضل ورسمت له صورة أجمل!
والحقيقة هي أن هذه الظاهرة ملاحظة حتى بين أفراد العائلة الواحدة..
فقد تجد شيخاً أو فقيهاً أو مفكراً يملك تأثيراً قوياً على آلاف الأتباع الذين لا يعرفهم، في حين يعجز عن التأثير على أبنائه الذين يراهم كل يوم (بل وقد يعتبرونه رجلا فاته الزمن)..
أنا شخصياً لدي ستة كتب ناجحة ــ لا تكاد تظهر في السوق حتى تختفي بسرعة ــ ومع هذا لم يقرأها أحد من أبنائي..
ابنتي مياس تقـرأ روايات عالمية بثلاث لغات، وابني حسام قرأ كتاب عبدالله الجمعة الرائع (حكايا سعودي في أوروبا) عدة مرات، في حين لم يقرأ أحد منهم كتابي “حول العالم في 80 مقالا” الذي يغطي ربع قرن من الرحلات الموثقة بالصور!!!
على أي حال…
لستُ أفضل من الإمام أبي حنيفة الذي كانت والدته لا تعترف بفتاويه وتذهب مسافة طويلة لأخذ الفتوى من فقـيه يدعى؛ (زرعة القاص)
الذي كان يستمع لها ثم يبتسم في وجهها ويقول لها:
“القول ما قاله أبو حنيفة”..
هذه دعوة مني لقراءة هذه المقالة الرائعة والتفكر فيها فلعلها تغير مواقف البعض وسلوكهم من اقرب الناس إليه..
الكاتب السعودي
صحيفة الرياض