في أغسطس ١٩٥٥ حدث تمرد حامية توريت في جنوب السودان، كان ذلك في ظل الحكم الذاتي السوداني المتكون نتيجة لاتفاقية الحكم الذاتي ١٩٥٣، من وقتها اندلعت حرب الجنوب لتصبح مع الايام أطول حرب أهلية في افريقيا، سياسات نظام عبود الدكتاتوري ساهمت في تفاقم أزمة الجنوب، ورغم أن أزمة جنوب السودان كانت من محفزات اندلاع انتفاضة أكتوبر ١٩٦٤ التي أطاحت بعبود، الا ان التمرد الجنوبي لم يبدي استجابة وافرة تجاه الحكم الديمقراطي الذي أفرزته ثورة اكتوبر، وهو نفس الذي حدث مع حكومة ثورة ابريل ١٩٨٥، رفض حركات الجنوب التعامل مع الحكومات الوطنية المفوضة من الشعب بعد الثورات ألقى بظلال عميقة وخطيرة على الدولة المركزية وعلى مستقبل الحكم الديمقراطي في السودان، وكمثال فان من اسباب انهيار الديمقراطية الثالثة استثمار الإعلام الموالي للجبهة الإسلامية لحرب الجنوب كوسيلة للنيل من الحكم الديمقراطي وإظهاره بمظهر الضعيف امام التمرد واستخدام ذلك لتغبيش وعي الجماهير وتهيئتها لاستلام السلطة بانقلاب الإنقاذ.
ازمة الجنوب كانت احدي الازمات الكبرى التي اقعدت البلاد منذ الاستقلال، فقد استهلكت حرب الجنوب كل طاقات البلاد وخيرة شبابها وضيعت على البلاد فرصا عظيمة للنمو والتطور، بينما مثل الصراع بين الأحزاب السياسية في الشمال أزمة أخرى مقعدة للوطن، إذ شهدت كل الفترات الديمقراطية منذ الديمقراطية الاولى التي ولدت مع الحكم الذاتي في ١٩٥٥ مرورا بالديمقراطية الثانية والثالثة صراعا عدميا مزمنا بين الأحزاب السياسية تمظهر في تعدد الحكومات الائتلافية، التشاكس السياسي، الإعلام السلبي، الهشاشة السياسية والامنية، وجميعها أسباب مهدت الطريق لحدوث الانقلابات.
غياب المؤسسية والوعي الديمقراطي داخل التنظيمات السياسية السودانية كان ايضا ذو أثر بالغ في فشل ديمومة الحكم الديمقراطي وفي استمرار الصراع العبثي حول المصالح الحزبية الضيقة، وقد قاد هذا إلى أنظمة حكم حزبية ضعيفة القدرات والمؤهلات، مما أدى إلى إهدار المكتسبات القومية وتخلف التنمية وانخفاض الناتج القومي.
ملخص الحكم منذ الاستقلال ان السودان عايش انهيارا متواصلا في الدولة بسبب القهر والظلم في العهود الشمولية وبسبب الصراع السياسي وأنظمة الحكم الضعيفة في العهود الديمقراطية، تكرار هذه الأخطاء بالكربون من ديمقراطية إلى ديمقراطية ومن شمولية إلى شمولية أهدر جميع الفرص وأثبت ان عدم التعلم من الدروس هو صفة أصيلة ملازمة للحركة السياسية السودانية.
لن تحظى الديمقراطية الرابعة (ديمقراطية ثورة ديسمبر) بفرص نجاح اذا استمرت التنظيمات والكيانات السياسية السودانية تعمل بذات المفاهيم القديمة، تصادر داخلها المؤسسية، تخنق الديمقراطية، تخضع للعقائد والايدولوجيا، وتصارع الاخر صراعا عدميا لا يراعي مصلحة الوطن، وهو ما يجب ان نتفاده باعلان ثورة حزبية لاعادة بناء الأحزاب السياسية السودانية على عقيدة برامجية هدفها التقارب مع الآخر السياسي لا الخلاف معه والتعاون معه لا الصراع من أجل خدمة الوطن والمواطن، هل سننجح في ذلك؟ هذا ما ستكشفه الأيام.
sondy25@gmail.com