نحاول في اختصار غير مخل شرح تعقيد أزمة سد النهضة ومراحلها منذ بداياتها في العام 2011 حتى لحظة تعثر التفاوض ووقوف السودان ومصر في ضفة وأثيوبيا في الأخرى:
أولاً: نبدأ بتبرئة النظام الأثيوبي الحاكم الحالي بقيادة أبي أحمد من أي سوء نية في بناء السد، ببساطة لأن فكرة بنائه وسدود أخرى بدأت منذ العام 1902م إبان حكم الملك الأثيوبي منليك الثاني، ما يؤكد ذلك الإتفاقية الشهيرة عام 1902م بين منليك الثاني وبريطانيا والمكونة من خمسة بنود فقط أهمها البند الثالث الذي يلتزم فيه منليك بعدم إنشاء أي سد يعطل أو يقلل من جريان المياه في الأنهار العابرة إلى السودان مثل النيل الأزرق، السوباط وتكزي وستيت دون موافقة حكومة السودان وحكومة بريطانيا في مقابل منح السودان منطقة قمبيلا التي يجب إعادتها إلى أثيوبيا عند استقلال السودان، ومنح أثيوبيا منطقة بني شنقول السودانية والتي أقيم عليها سد النهضة الحالي، بمعنى أوضح أن تبادل منح المنطقتين قمبيلا للسودان وبني شنقول لأثيوبيا مرتبط بشرطين في اتفاقية 1902، الأول السودان يعيد قمبيلا لأثيوبيا عند الإستقلال وأثيوبيا تلتزم بأخذ موافقة السودان وبريطانيا قبل بناء أي سد أو سدود على النيل الأزرق، السودان أوفى بالشرط المفروض عليه وأعاد قمبيلا لأثيوبيا بعد الإستقلال مباشرة، أثيوبيا لم تلتزم بالشرط الذي بموجبه مُنحت منطقة بني شنقول، وهو أنها أقامت عليها السد دون إخطار السودان وبريطانيا وعليه كما يُكرر دوماً العالم القانوني د. أحمد المفتي إن السودان يمكنه المطالبة بإعادة منطقة بني شنقول بسبب خرق أثيوبيا لأهم بند (البند الثالث) من إتفاقية 1902 ويضيف المفتي في عقلانية: بما أن السد أصبح حقيقة واقعة على السودان مطالبة أثيوبيا بتعويض مادي فوري مجز لقيمة الأرض المقام عليها السد وتعود بقية منطقة بني شنقول للسودان.
العنصر الثاني لتبرئة النظام الحاكم الحالي في أثيوبيا من أي سوء نية، أن الموقع الذي شيد فيه سد النهضة تم تحديده بواسطة مكتب الاستصلاح الأمريكي (U.S.A Reclamation Bureau) في مجرى النيل الأزرق في الفترة بين (1956-1964) إبان حكم الإمبراطور هيلاسلاسي، ولكن نتيجة لانقلاب منقستو هايلي ماريام الشيوعي عام 1974 والإطاحة بالإمبراطور توقف العمل في الدراسة الأمريكية. راجعت حكومة ملس زيناوي التي أطاحت بنظام منقستو عام 1991 الدراسات في أكتوبر 2009 وأغسطس 2010 ووافقت على موقع السد الحالي الذي حددته أمريكا. وفي نوفمبر 2010 تم إعداد تصميم السد بواسطة مكتب جيمس كلستون الاستشاري (أمريكي) .
العنصر الثالث لتبرئة حكومة ملس زيناوي من سوء النية في إنشاء السد أنه وفي مارس عام 2011 عند زيارة ملس للسودان صرح بأنه اندهش لتخوف السودان وقال: (كنت أتوقع أن يساهم السودان في إنشاء السد بنسبة لا تقل عن (30%) لأنه يستفيد من السد فائدة كبرى لا تقل عن أثيوبيا، وأن كل الآثار السالبة لإنشاء السد تكون خلفه في الأراضي الأثيوبية)، رغبة ملس زيناوي في مساهمة السودان تعني مشاركة السودان الكاملة في إدارة السد والتحكم والتشغيل، ما يعني أن أثيوبيا ليس لديها ما تخفيه أو ترغب في الإضرار بالسودان إذ أنه سيكون شريكاً أصيلاً.
ثانياً: موقف السودان منذ نظام الإنقاذ وحتى قبيل تعثر المفاوضات كان متسقاً مع أثيوبيا ولم يتحدث عن سلامة السد واحتمالات انهياره، بل تأكد المفاوض السوداني من فوائد السد الكبيرة للسودان.. مصر كانت تتحدث عن سلامة السد واحتمالات انهياره وتتحدث عن التخوف من نقص حصتها من المياه خاصة في فترة ملء بحيرة السد. الآن توقف حديث الخبراء السياسيين المصريين عن سلامة السد ونقص المياه لأن انهياره كل أثره سيكون على السودان، ومصر فيها السد العالي الذي تبلغ سعة بحيرته تقريباً ضعف سعة بحيرة سد النهضة (بحيرة السد العالي 130 متر مكعب وسد النهضة 74 مليار متر مكعب).
ثالثاً: التغيير الدراماتيكي في موقف السودان جاء نتيجة لموقف غير مبرر وغير ذكي من الحكومة الأثيوبية، وهو رفضها لمطالب مشروعة وواجبة من السودان بإلزامها بموجب اتفاقية موثقة ومعتمدة تحت رعاية رباعية من الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الاتحاد الأفريقي وأمريكا- (أمريكا بحكم ما أوردنا في مقدمة هذا المقال انها كانت وراء دراسات إنشاء السد وتحديد الموقع وإعداد التصميم)- موقف أثيوبيا هذا جعلها تفقد توافق السودان معها في أزمة السد منذ العام 2011 وحتى قبيل توقف المفاوضات، وأتاح لمصر فرصة ذهبية تم استغلالها بذكاء في جذب السودان إلى جانبها وترك أثيوبيا لوحدها في الضفة الأخرى، بالرغم من أن مصر ترفض من حيث المبدأ إنشاء أي سد على النيل الأزرق بغض النظر عن فوائده الكبيرة للسودان وعدم تأثر حصتها من المياه بأي نقص حتى في فترة تخزين مياه بحيرة السد.
مصر تعلم أن أثيوبيا لا تستطيع تخزين أكثر من 74 مليار متر مكعب خلف السد، وتعلم أيضاً أن فترة ملء بحيرة سد النهضة يمكن أن تكون أقصر مما يتفق عليه (7 أو 10 سنوات) بسبب احتمالات هطول أمطار في المرتفعات الأثيوبية بمعدلات أكبر من الطبيعي، مما يزيد حجم الماء خلف السد وتعلم أن حالات هطول أمطار بمعدلات أقل في أثيوبيا واحدة من الشروط التي يجب أن تتضمنها الاتفاقية الملزمة لأثيوبيا وتحديد التوقف عن حجز المياه في هذه الحالة.
الآن موقف السودان ومصر الثابت والمدعوم دولياً هو إتفاقية مفصلة تلتزم بها أثيوبيا تحدد طريقة تشغيل السد، وتضمن عدم المساس بالحصص السنوية للسودان ومصر حسب اتفاقية 1959 (السودان 18,5 مليار متر مكعب ومصر 55,5)، إلزام أثيوبيا بعدم حجز مياه في حالات الجفاف أو نقص هطول الأمطار في الهضبة الأثيوبية.
لكل ما تقدم لا أرى سبباً منطقياً أو عقلانياً لتعنت أثيوبيا وفقدانها السودان الذي وقف لجانبها في بناء السد، وخسر مصر في نظامها الحاكم وخبرائها في المياه والإعلام المصري الذي هاجم السودان بكل قسوة واتهمه بالتواطؤ مع أثيوبيا في الإضرار بمصر وشعبها في أعز ما تعتمد عليه وهو شريان مياه النيل الأزرق، الذي يرفد مياه نهر النيل بـ(84%) من مياهه، وتمضي أثيوبيا في فقدانها للسودان ودفعه للوقوف والتحالف مع مصر في كل الأوجه المائية والأمنية بافتعال أزمة في حدود السودان الشرقية، ودعم عصابات أثيوبية استولت على أراضٍ سودانية عزيزة في منطقة الفشقة السودانية مائة في المائة تقاعس نظام الإنقاذ المباد في استعادتها للسودان، بل ركز كل جهده العسكري في محاربة مواطنيه الأبرياء المسالمين في دارفور العزيزة الغنية بالثروات النادرة والغنية أيضاً بإنسانها الطيب، قتلهم وشردهم- لاجئين ونازحين- تركوا ديارهم وحواكيرهم الغنية الآمنة.