سوف يشهد النصف الثاني من هذا العام ميلاد نهر النيل بملامحه الجديدة التي تخالف ما تآلف عليه الناس عبر القرون، وتعلن عن نهاية مرحلة طويلة من تاريخ حوض النيل، كانت الهيمنة فيها لدولة المصب.
كانت البداية عندما رفضت مصر الطلب الإثيوبي المتكرر بالمشاركة في المباحثات التي أفضت الى اتفاقية 1959 بين
مصر والسودان، حينها كان رد فعل إثيوبيا هو اللجوء لأمريكا لمساعدتها في اعداد دراسة شاملة لتنمية الموارد المائية بحوض النيل الأزرق..
تجاوبت أمريكا مع الدعوة الإثيوبية، و أوكلت المهمة لمكتب الاستصلاح الأمريكي الذي أرسل بعثة فنية ضخمة قامت بإعداد دراسة شاملة ومتميزة، استمر العمل فيها بين عامي 1959 و1964..
تضمن تقرير الدراسة 33 مشروعا لتنمية الموارد المائية في حوض النيل الأزرق، من ضمنها مشروع سد الحدود المقترح بالقرب من الحدود السودانية، بارتفاع 90 مترا،
و سعة تخزينية 14 مليار م3
و طاقة كهرومائية قدرها 2000 ميجاوات..
لم يلفت مقترح سد الحدود الأنظار نسبة لصغر حجم التخزين، عدم وجود تخزين دائم، انخفاض التبخر من بحيرة السد، ولأنه يقع على الحدود السودانية مما يلغي فرص الاستفادة منه في الري..
أعلنت إثيوبيا عن بدء تنفيذ السد في نوفمبر 2010، لكن بمواصفات مختلفة زاد فيها الارتفاع الى 145 مترا، بسعة تخزينية74 مليار م3 و طاقة كهرومائية قدرها6000 ميجاوات..
منحت إثيوبيا عقد التنفيذ، بقيمة 4.8 مليار دولار وبنظام تسليم مفتاح، لشركة ساليني إمبرجيلو الإيطالية في أبريل 2011، حيث قامت الشركة بتطوير التصاميم الهندسية الأولية الى تصاميم تفصيلية، ثم بدأت اعمال تشييد السد في العام 2013..
منذ تلك اللحظة أصبح السد قضية وطنية و مصدر فخر للإثيوبيين لفشلهم في الحصول على تمويل من المؤسسات العالمية، واتهامهم لمصر بوقوفها وراء هذا الفشل..
على الجانب الأخر أصبح السد قضية وجود كما وصفته مصر، و أعلنت في مناسبات مختلفة أنها لن تسمح بالمساس بحصتها المائية، وأن كل الخيارات مفتوحة للحفاظ على أمنها المائي..
لم يكن الموقف السوداني بنفس القوة و الوضوح، فبدأ حليفا لمصر، ثم انتقل لمؤازرة إثيوبيا وآثر، خلال السنوات الماضية، أن يلعب دور الوسيط، بالرغم من انكار المسؤولين و نفيهم لذلك، لكن واقع الحال يثبت
هذه الصفة.
سوف أناقش موقف السودان من سد النهضة من خلال ثلاثة محاور، المحور الأول بعنوان من الاغراق المجاني الى الشراكة المجانية، ويتطرق بشيء من التفصيل لفوائد سد النهضة للسودان، والتي تجعل منه في الحقيقة شريك مجاني في هذا المشروع الضخم، وتضعه كمستفيد أول لأنه ينافس إثيوبيا في حجم العائد الاقتصادي، من دون إسهام في التكلفة..
في المقابل سوف أتحدث
بإيجاز شديد عن واقعة تاريخية مماثلة، على الجانب الآخر من النهر، حيث دفع السودان الغالي والعزيز مقابل بناء السد العالي، ولم ينله من الخير أي نصيب.
المحور الثاني للنقاش هو عن أمان السد، وما يدور من أحاديث من جهات متعددة تشكك في السلامة الانشائية للسد، وترجح احتمال انهياره وما يتبع ذلك من دمار شامل للمدن النيلية في السودان، وربما مصر..
يضيف المتشائمون لمخاطر السد إمكانية أن تتخذ إثيوبيا منه سلاحا بإحداث فيضان متعمد لتدمير السودان.
المحور الأخير هو موقف السودان التفاوضي “الباهت”،
و النزعة نحو تقمص دور الوسيط و المسهل و ما يمثله ذلك من تناقض و ضياع
للحقوق.
بعد اكتمال سد النهضة، لن يكون النيل هو النهر الذي تعارف عليه السودانيون وألفوه عبر آلاف السنين، فسوف يختلف النهر عن وضعه الحالي جذريا، وسيكون الاختلاف ملحوظا ومؤثرا في كل مدينة و قرية و مشروع زراعي أو كهرومائي، ليس على النيل الأزرق فقط، بل على امتداد نهر النيل..
يمكن تلخيص هذه الاختلافات في ستة عوامل :
الأول: هو الانخفاض الكبير في كمية المياه الواردة خلال فترة الملء الأول، ثم انخفاض طفيف و مستمر خلال تشغيل السد،
و هو عامل سلبي بطبيعة الحال، سيتسبب في أحداث بعض الخسائر.
العامل الثاني: هو الانتظام النسبي في سريان النهر طوال العام، و هو عامل ايجابي، ستنتج عنه كثير من الفوائد ذات العائد الاقتصادي الكبير. أما العامل الثالث: فهو التحكم الأثيوبي في المياه، وهو عامل سلبي وتعتمد درجة تأثيره على مدى التعاون الفني و على وجود اتفاق قانوني و استمرار التوافق السياسي.
العامل الرابع: هو اختفاء الطمي الذي يتميز به النيل الأزرق، وهو عامل سلبي/ايجابي معا، سيتسبب في بعض الخسائر، لكنه سيوفر فوائد كبيرة.
العامل الخامس: هو اثارة التغييرات المورفولوجية للنيل الأزرق و نهر النيل و ما يصاحب ذلك من مشاكل عديدة تتسبب في خسائر مالية مقدرة.
العامل السادس: والأخير هو إثارة مشاكل جانبية بين مصر والسودان سوف يكون لها اثار ممتدة و توابع مستقبلية.
الخلاصة أن السودان يمكنه، إذا ما أحسن الاستعداد، أن يكون المستفيد الأول من سد النهضة، اذ تتحقق له فوائد عديدة و ضخمة من غير أن يساهم في تشييد السد.
يتوقف أثر العامل الأول، المتمثل في الانخفاض الكبير في كمية المياه الواردة، على حجم التخزين المستمر بسد النهضة وفترة الملء المقدرة من 4 الى 7 سنوات حسب إيرادات النهر.
أثناء هذه الفترة يكون الحد الأدنى لإيراد النيل الأزرق 37 مليار م3 سنويا، وهذا يعني انخفاضا يقدر بحوالي 13 مليار متر م3 في السنة حسب اتفاقية 1959 بين السودان و مصر ..
و سيتم تقاسم الفاقد مناصفة بين البلدين، أي ان حصة السودان من مياه النيل ستنخفض بمقدار 6.5 مليار م3 في السنة (من 18.5 إلى 12 مليار م3/سنة). يعني ذلك أن استهلاك السودان الحالي، البالغ 12 مليار م3، لن يتأثرا سلبا، لأنه فشل طوال العقود الماضية في استخدام نصيبه من المياه.
لكن هنالك أثرا سلبيا غير مباشر يتمثل في التوتر الذي سوف يثيره هذا النقص مع مصر، التي كانت تخزن ما يفيض عن حاجة السودان ليدخل ضمن استخداماتها، أي أن مصر سوف تتحمل كامل النقص من المياه.. فبدلا عن 6.5 مليار م3، سوف تفقد مصر 13 مليار م3 وهو ما لن تقبله مصر بالرغم من أنها لم تعترف أبدا بأنها كانت تستخدم فائض المياه..
أما بعد اكتمال ملء بحيرة السد، فسوف يكون هنالك نقصا مستمرا يقدر بحوالي 2 مليار م3 سنويا، سوف يتم تقاسمه مناصفة بين السودان ومصر، ولن يؤثر ذلك على
السودان..
العامل الثاني، وهو الأهم والأكبر أثرا، يتمثل في تنظيم سريان النهر الجامح، الذي تميز عبر القرون بالتفاوت الكبير في الايراد موسميا وسنويا، اذ ان 60% من التدفق السنوي يحدث خلال شهري أغسطس وسبتمبر و88 % خلال الأشهر الأربعة من يوليو إلى أكتوبر، كما أن الايراد السنوي يتراوح ما بين 29 الى 74 مليار م3/سنة. بعد تشغيل السد، سيكون للنيل الأزرق، في معظم الأحيان، تدفقا يوميا منتظما قدره 135 مليون م3/يوم،
و سوف يكون مستوى المياه بالنهر ثابتا تقريبا طوال العام، بزيادة حوالى مترين من أدنى منسوب، و انخفاض 3 أمتار عن مستوى الفيضان..
ستوفر التدفقات المنتظمة فرصة كبيرة لزيادة توليد الطاقة في سدود الرصيرص، سنار ومروي، يمكن اعتبار ذلك فرصه مجانية، لمضاعفة التوليد الكهربائي والقفز بكفاءة التوليد بنسبة بين %20 الى أكثر من 40%, ويمكن زيادة الفائدة باستبدال التوربينات الموجودة بأخرى يتم تصميمها خصيصا لتعظيم توليد الطاقة في ظل الظروف الجديدة..
كذلك سوف يمنح السريان المنتظم فرصة لتطوير النقل النهري بنهر النيل، وذلك من خلال توفير غاطس مناسب للبواخر على طول النيل وعلى مدار السنة. يمنح تنظيم سريان النهر السودان،
كذلك، فرصة عظيمة لزيادة كفاءة الري، وذلك من خلال المساهمة في حل أحد المعوقات الرئيسية لتنمية المشاريع المروية في السودان، والمتمثلة في محدودية القدرات التخزينية على نهر النيل الأزرق. سوف يوفر سد النهضة الحل المثالي الذي يتيح المياه طوال العام و يمكن من تكثيف الدورة الزراعية في مشروعات الري القائمة. لقد أكدت الخطة الشاملة للموارد المائية بالسودان، التي أعدتها وزارة الري والموارد المائية قبل أربعة عقود..
أن زيادة الكثافة الزراعية تعتبر من أكثر المشاريع جاذبية في الخطة، اذ تحقق أعلي عائد على الاستثمار، وسوف يكون عائد الاستثمار بعد سد النهضة أعلي بكثير مما حددته الخطة الشاملة، حيث يتم خفض التكلفة الي الصفر تقريبا، لعدم الحاجة لأي استثمار، كما أن العائد سيكون أضخم لأن الزيادة لن تحدها سعة المواعين التخزينية بالنيل الأزرق..
العائق العملي لهذا الأثر الايجابي يكمن في ثلاثة عوامل :
الأول: داخل مشاريع الري السودانية، التي تعاني من تدهور كبير للبنية التحتية للري. من الضروري استثمار سنوات ملء بحيرة سد النهضة في اعداد دراسات فنية شاملة لشبكات الري والصرف بهذه المشاريع، ووضع وتنفيذ الحلول الهندسية التي تمكن من زيادة قدرة الشبكات لتمكينها من نقل وتوزيع المياه بكفاءة عالية تتيح الاستفادة من هذه الفرصة على النحو الأكمل..
العامل الثاني:
هو وجود سقف يحد الاستفادة القصوى من هذه الفرصة وهو نصيب السودان من مياه النيل، ويقدر ب %22 فقط من الايراد. العامل الثالث:
الذي يحد من الاستفادة الكاملة من انتظام تدفق المياه هو أن هذا التدفق يعتمد الى حد كبير على التعاون الايجابي مع إثيوبيا في تشغيل سد النهضة، و وجود اتفاقيات تفصيلية لقواعد التشغيل، تتضمن الاحتياجات المائية للمشاريع السودانية..
من ايجابيات السريان المنتظم للنيل الأزرق كذلك الوقاية من الفيضانات، اذ يعاني السودان من خسائر كبيرة نتيجة للفيضانات العالية التي تحدث بصورة دورية كل عدة سنوات، وتشمل الخسائر تدمير المباني السكنية والتجارية وغمر الأراضي على طول النيل الأزرق والرئيسي. لا توجد دراسات موثوقة لتقدير حجم الخسائر المالية لهذه الفيضانات،
و لكن من المؤكد أن قيام سد النهضة سيوفر مبالغ مالية طائلة للسودان بمنع الفيضانات. بالإضافة للآثار الايجابية، فان السريان المنتظم للنيل الأزرق، في المقابل، له آثار سلبية أيضا، منها أن المياه الجوفية في الأراضي المتاخمة للنيل الأزرق والنيل الرئيسي، والتي تتجدد سنويا من التغذية بمياه الفيضان، سوف لن تتجدد بنفس المستوي بعد أن تفقد الضاغط الرأسي الذي توفره الفيضانات..
لا توجد دراسات مفصلة حول كمية المياه الجوفية و مواقعها و السحب السنوي منها ومدي تأثر ذلك بسد النهضة،
لكن الشيء المؤكد أن التأثير السلبي على المياه الجوفية لن يكون ذا شأن كبير. أثر سلبي آخر هو تقليص المساحات المزروعة في الأحواض الفيضية والجروف، و يؤثر ذلك على عدد كبير من الحقول الصغيرة و المتوسطة الحجم داخل سهول الفيضانات و على شواطئ النيل، والتي تزرع باستخدام مياه الفيضان و تستفيد من الاسمدة الطبيعية للطمي خلال فترات الفيضانات العالية.
بعد اكتمال تشييد سد النهضة سوف تحرم هذه الحقول من مياه الفيضانات والأسمدة العضوية الطبيعية عالية الجودة، وستكون هناك حاجه إلى توفير وسيلة ري بديل لهذه الحقول بالمضخات و سوف تكون هناك حاجة لاستخدام الاسمدة..
هذا الوضع الجديد سوف يمثل مشكلة كبيرة على المستوى المحلي في مناطق الأحواض الفيضية، مما يتطلب بالضرورة توفير دعم حكومي لتوفير المضخات و ضمان استمرار الانتاج..
لكن الأثر على المستوى القومي سوف يكون محدودا، لأن هذه الأراضي لا تشكل نسبة كبيرة من جملة الأراضي الزراعية، بالإضافة الى أن توفير الري الصناعي لهذه المساحات سيمكن من زيادة كفاءة الري و زراعة الأرض أكثر من مرة في العام، مما سوف يضاعف من العائد الانتاجي.
العامل الثالث: هو التحكم الأثيوبي في المياه، وهو عامل
سلبي وتعتمد درجة تأثيره على عوامل مختلفة، تبدأ أثناء مفاوضات سد النهضة التي تجري حاليا، حيث يفترض الاتفاق على قواعد تشغيل السد، وأن يتضمن ذلك الحد الأدنى من التعاون المستمر بين السودان وإثيوبيا حتى لا يؤثر تشغيل السد سلبا على الاستخدامات السودانية المختلفة لمياه النيل الأزرق.
استمرار التعاون الفني بين الدولتين يتطلب توثيق ذلك في اتفاق قانوني، ودعمه سياسيا ليكون جزءا من توافق سياسي وتعاون اقتصادي مستمر.
العامل الرابع: هو الانخفاض الكبير في حمولة الطمي الذي يتميز به النيل الأزرق، إذ أن تصميم و نظام تشغيل سد النهضة يشجعان على ترسيب معظم حمولة الطمي في خزان السد نظرا للتخزين خلال موسم الفيضان و كبر حجم التخزين الميت، وعدم وجود بوابات عميقة لإجراء عمليات تنظيف الطمي المتراكم، كما هو الحال في السدود السودانية على النيل الأزرق..
وفقا لذلك سوف يحمل النهر مياها شبه نظيفة إلى السودان.
انخفاض حمولة الرواسب سوف ينتج عنه اطالة عمر سدود الرصيرص، سنار ومروي، بالإضافة لتوفير مبالغ ضخمة سنويا كانت تذهب لمقابلة عمليات ازاله الرواسب امام محطات الطاقة في السدود وفي قنوات الري و مداخل محطات الضخ للمشاريع المروية..
اضافة لذلك، فإن خلو المياه من الطمئ سوف يزيد من كفاءة الري لأنه لن يتراكم و يمنع إمداد الحقول الزراعية بالمياه، و سوف ينعكس ذلك على زيادة العائد من المشروعات المروية.
العامل الخامس: هو اثارة التغييرات المورفولوجية للنيل، فالأنهار تشابه الكائنات الحية، اذ أنها تستجيب لأي تغييرات في الظروف السائدة، مثل كمية المياه و مواعيدها و حجم الطمي و نوعيته.
الاستجابة تكون عن طريق تغيير المعالم الأساسية للنهر، ويؤدي ذلك الى تنشيط ظاهرتي الإطماء والنحر، يستمر ذلك حتى يتم تحقيق استقرار جديد للنهر يتوافق مع ظروفه الجديدة..
نتيجة لذلك سيتعرض النيل الأزرق والنيل الرئيسي لمشاكل التعرية والترسيب لفتره طويلة، وهو ما سيتطلب اجراء دراسات لتحديد تفاصيل التغييرات المورفولوجية المتوقعة، و وضع برنامج للوقاية من اثارها السلبية و تنفيذ أعمال حماية الأراضي الزراعية والبنية التحتية القائمة، من كباري و محطات ضخ و مزارع و منشئات على جانبي النهر و قنوات الري، من التعرية و الترسب..
العامل السادس: والأخير هو اثارة مشاكل جانبية بين مصر والسودان سوف يكون لها اثار ممتدة و توابع مستقبلية، المشكلة الأولى تكمن في ان مصر ظلت تستهلك ما يفيض عن السودان، وقدره حوالي 6.5 مليار م3، لعقود بصورة غير معلنة، الأمر الذي سوف يفتح بابا واسعا للخلاف بينها خلال فترة ملء خزان سد النهضة..
المشكلة الثانية تنتج من الاثار الجانبية للسريان المنتظم الذي سيوفر فرصة غير مسبوقة و مربحة لتطوير أكبر قدر من مشروعات الري، و سوف يؤدي ذلك إلى زيادة غير منضبطة في استخدام مياه النيل في السودان مما يقود إلى نشوب نزاعات مع مصر..
هنالك جانب ايجابي لهذا العامل يتمثل في أن النزاع مع مصر حول مياه النيل مطلوب، لأنه سوف يفتح الباب لنقاش شامل و يزيح الغبار عن كثير من الملفات القديمة التي يجب أن تخرج للعلن.
◦
mustafashalaby@gmail.com