قبل أن أستقرئ تفاصيل مؤتمر باريس وأهميته، وما سيتستفيده السودان منه وتوقيته والصدى الواسع والاهتمام الكبير الذي حظي به من كافة وكالات الأنباء العالمية والإقليمية، وهل تحققت أهدافه أم لا؟
دعوني ألقي الضوء على صاحب الفكرة والعقل الذي سعى وراء انعقاده بمجهودٍ مقدّر منذ نحو العام من الآن.. وأحيِّيه تحية إجلالٍ من خلال هذا المقال.. إنه الخبير الاقتصادي الأفريقي ووزير المالية السابق البروفيسور إبراهيم البدوي الذي وضع لَبِنَاته الأولى حينما كان وزيراً في حكومة الثورة وأكمل جهوده مشكوراً خَلَفَهُ جبريل ابراهيم.
التقط ماكرون القفاز وخلق من الفكرة واقعاً مُعاشاً باستضافة بلاده لفعاليات المؤتمر بمشاركة مكتملة لنادي باريس والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي مع مشاركة واسعة من دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية التي حضر وزير خزانتها المؤتمر عبر “الأثير”، وبحضور بعض الدول العربية والأفريقية والآسيوية، وحمل المؤتمر أهدافاً ثلاثة هي:
1/ إعفاء ديون السودان التي بلغت زهاء 60 مليار دولار.
2/ دمج السودان وإعادته لمظلّة الأسرة الدولية بعد عُزلةٍ اقتصاديةٍ طويلة.
3/ إنعاش المشاريع التنموية والحيوية، وجعل السودان دولة جاذبة للاستثمار بما تمتلكه من مقومات أساسية كالأراضي الزراعية الخصبة وتدفق الأنهار العذبة والثروات الحيوانية والبترول والمعادن وغيرها كتميُّزِهِ بموقعٍ جغرافي استراتيجي في قلب القارة السمراء.
استضافت فرنسا وفدين سودانيين استضافةً كاملة فيما قَدِم الوفد الثالث على نفقته الخاصة، وكانت الوفود الثلاثة ترتيباً هي:
1/ الوفد الرسمي للحكومة الإنتقالية برئاسة دولة رئيس الوزراء الدكتور عبداللّٰه حمدوك.
2/ وفد الثوار والمكوَّن من عشرة (ثُوَّار) أبرزهم الدكتور الأصم، “وأيقونة الثورة” الكنداكة آلاء صلاح، “وصائدة البُمبان” الكنداكة رِفقة عبدالرحمن.
3/ وفد اتحاد أصحاب العمل وأرباب الصناعات.. وأود هنا الإشارة إلى أن هؤلاء المستثمرين ورجال الأعمال تكفَّلوا بكامل مصاريف حضورهم للمؤتمر من حُرِّ مالهم، وهذا يدحض اللغط الذي أشعَلَ وسائل التواصل الاجتماعي، ولم يكن هنالك أي صرفٍ حكومي البتَّة ناهيك عن كونه بذخياً، أمَّا الوفد الحكومي ووفد الثوار فقد تكفَّلت فرنسا بكافة نفقاتهما، ولم يُنفَق شئٌ من خزينة السودان.
الخطوط العريضة لمخرجات المؤتمر فيما يخص إعفاء الديون كانت تعهُّدات الدول الدائنة بإعفاء ما يقارب من 45 مليار دولار والتي تعتمد على دخول السودان في مبادرة (الهيبك) أي (الدول الأكثر فقراً المُثقلة بالديون) فعلياً.
كما قدمت فرنسا قرضاً تجسيرياً لصندوق النقد الدولي بمبلغ دولاري وقدره مليار ونصف (أي أنها سدَّدت عن السودان دَينه بطريقة “الجِسَر” لأن الصندوق لا يعفي مديوناته) نتج عن ذلك القرض تسييل مبلغ 3 مليارات من الدولارات للسودان من صندوق النقد الدولي، أعاد منها قرض فرنسا التجسيري، على أن يوظِّف نصفه الآخر في دعم اقتصاده، وقد تم ذلك من خلال جلسات المؤتمر في باريس، وسيقوم وفدٌ من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بزيارةٍ ميدانية للسودان في يونيو المقبل لتقييم التزام السودان بتحقيق دخوله لمبادرة (الهيبك) وستنتج عن تلك الزيارة معرفة جِدِّيَّة خطوات السودان في بلوغ غاياته وغايات شعبه المكتوي بنيران المعاناة.
وبنظرة خاطفة على مُخرجات ما يخص جانب الاستثمار وإنعاشه، ظهرت بعض الوعود الاستثمارية من دولٍ ذات تقنيات متطورة كهولندا مثلاً وتخصُّصِها في صناعة (الأجبان والألبان) والاستفادة من ثروتنا الحيوانية وتوجيهها لمثل هذه المشاريع بصورة أكثر نجاعة وتطوُّر.. كذلك استثمار شركة “سيمنز” الألمانية المُتخصِّصة في مشاريع الطاقة والكهرباء والمولدات وصيانتها، هذا بجانب حث وتحفيز وزارة الخزانة الأميركية عبر موقعها الرسمي مواطنيها وتشجيعهم على الاستثمارات في السودان كشركات أو أفراد مما سيكون له أثره الإيجابي بكل تأكيد، ولو نجح مؤتمر باريس في جلب مثل هذه الاستثمارات الغربية فإنه سيقود لتغيير خارطة الاستثمار في السودان، التي استحوذت عليها – منذ الاستقلال – الدول العربية بنسبة 80% وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية بقيمة 62 مليار دولار، تليها الدول الأسيوية بنسبة 13%، ثم الدول الأوربية بنسبة 5%، في حين لا تتعدى استثمارات أميركا وكندا مجتمعتين نسبة 2%، وعلى الحكومة بذل المزيد من الجهود لعمل الإصلاحات اللازمة لإنجاح هذا الملف الحيوي والتي تتلخّص في:
- توفير الطاقة: من كهرباء وبنزين وغاز.
- إصلاح النظام المصرفي.
- إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية والعسكرية والشرطة.
أما عن إدخال السودان تحت مظلَّة المجتمع الدولي كدولة جاذبة للاستثمار فلابد من تحقيق أمورٍ كثيرة أهمها إفشاء السلام العادل، ووقف الصراعات القبلية، والاستقرار التام للوضع السياسي والإقتصادي والأمني، وكلها ملفات شائكة تشكِّلٍ تحديات عظيمة للحكومة في قادم الأيام.
خلاصة القول إن ردم الهوّة السحيقة التي أوصلنا إليها النظام البائد ليست بتلك السهولة.. ولكننا ورغم ذلك نشيد بكل الجهود المبذولة ونثمِّنها عالياً ونجزم بأنها بداية تلمُّس الطريق الصحيح، ولابد من القول إنه بالنظر لمخرجات المؤتمر فقد تكون نسبة نجاحه قد فاقت الـ 75% على الورق، ونتمنى الوصول لمبتغانا واقعياً بتحقيق الحريّة والسلام والعدالة وتذليل المُعيقات التي تبدو كالجبال وتحتاج منا (شعباً وحكومة) للعمل المخلص والجاد والصبر والنظر لمصلحة البلاد دون غيرها، حتى يعلو منسوب طمس الترِكَة الثقيلة التي نقبع فيها (إلى الصفر)، ومن ثَمَّ نبدأ عمليات البناء الإيجابي لدولتنا المدنية.
م. أكرم عمر
28 مايو 2021