نحتسبُ شهداء فض الإعتصام الميامين أحياءٌ عند ربهم يُرزقون.. وقد خُلِّدت أسماؤهم بأحرفٍ من نور.. كيف لا وقد عاشوا أمامنا طوال فترة الإعتصام السلمية التي استشعرنا فيها أخلاق شعب السودان الطيِّب الأصيل، وبدت معالم سودان ما بعد الثورة تمثُلُ أمام الجميع بكلِّ ما فيها من قِيَمٍ سامية، وتعايشٍ سلمي بين مختلف الديانات والأعراق، ونبذٍ تام للعنصرية البغيضة، وبدت جليِّاً روعة التكافل الإجتماعي، وحكى الخشوع والطمأنينة بالصلوات الجماعية تعمُّق الإيمان في قلوب أولئك الشباب، كما ازدان شارع القيادة بلوحاتٍ فنيّةٍ لمواهبهم التي تنطِقُ إبداعاً، خلَّدوا من خلالها أسماء وصُوَر من سبقوهم من شهداء هذه الثورة المجيدة، واستمتعنا بالليالي الشعرية والأدبية والفنيِّة الرفيعة حينما تباروا في إظهار مهاراتهم الفذّة، والتي ما كنا لنعرفها لولا تلك اللُحمة الشعبية الفريدة التي ارتسمت بها ملامح جمعهم الأنيق، الذي سطر تاريخاً عظيماً أسقط به حكومة الظلم والطغيان.
وحانت ساعة الجريمة.. وأيُّ جريمةٍ تلك التي انفَطّرت لبشاعتها أفئدة العالم أجمع، وليس آباء وأمهات وإخوة وأقارب وأصدقاء الشهداء فحسب، لِتتلطِّخ بسببها سُمعة قوّات “الشعب” المسلحة التي اختار المعتصمون مقر قيادتها العامة ملاذاً آمناً يحميهم من ذخيرة القنَّاصين الحيَّة، والتي ظنَّ مُطلقوها ومن يأمرهم بإطلاقها أنها سَتُخرِسُ كلِّ صوتٍ رافضٍ للظُّلمِ والضيم، نادىٰ بالحريّة والإنعتاق من جبروت نظام الفساد والقتل الذي أذاقهم وأهلهم من الويلات ما لن يمحيه الزمن مهما طال.
كان المشهدُ واضحاً أمام الجميع.. في خواتيم الشهر الفضيل وفي ساعةٍ باكرة كان فيها الأغلبية نيام.. أي أنهم كانوا في أهدأ أحوالهم، تم ارتكاب المجزرة مع سبق الإصرار والترصُّد رغم محاولات الناطق الرسمي للمجلس العسكري تخفيف آثارها، ولكننا نذكرُ جيِّداً أن سبب بقاءَ مجلسه في السلطة كان بحجّة حقن الدماء وحماية الثوَّار السلميِّين، وجاءت تصريحاته وقتها مُتخبّطة ومُتضاربة، تشير حيناً إلى أنهم من أمروا بفض الإعتصام، رغم تأكيده قبلها بأنهم لا يعتزمون ذلك.. وبعدها عاد ليقول بأنهم أمروا بتنظيف منطقة كولومبيا المتاخمة لشارع القيادة، وحادَت فئةٌ عن الخُطَّة المرسومة لتطارد المتفلِّتين الذين هربوا لساحة الإعتصام (وحدث ما حدث).
إنه تاللّٰهِ لجرحٌ غائرٌ في خاصرة الوطن المُثخن بجراحاتٍ لا تزال تنزف بلا توقُّف.. فالعدالة إن لم تتحقق، ورؤية كل قاتلٍ يسلَمُ من القصاصِ يُبقي الغُصَّة في حلوق الجميع كالعلقم، وحرامٌ أن يعيش مثل هؤلاء المجرمين أحرار طُلقاءَ بدون مساءلة أو عقاب، وقد بدَّلوا أفراحنا بأعيادنا لأحزانٍ ودموع.. فتحقيق العدالة الإنتقالية وتنفيذ الأحكام الثورية الرادعة سيؤدي حتماً إلى التئام بعض تلك الجراح وتخفيف القليل من الأوجاع والآلام.
من حقنا كشعبٍ أن نعرف الحقيقة كاملة، ومن حقنا أيضاً أن نتساءل عن هذه الضبابية التي اكتنفت ملفاً بهذه الخطورة طيلة هذه الفترة دون الكشف عن ملابساته؟ فلمصلحة من يطول صمت المسؤولين عن هذا التعدّي السافر من قِبَل قوَّاتٍ نظنُّ بأنها قوات نظامية ومُسلَّحة دخلت على متن سياراتٍ حكومية بأزياء عسكريِّة متنوَّعة يقودها ضبّاطٌ قاموا بعمليات قتلٍ وسحلٍ واغتصاب، وأحرقوا الخيام وربطوا بعض المعتصمين بالحجارة وطابوق البناء وكُتَل الأسمنت الخرسانية وألقوا بهم في النيل دون وازعٍ من ضمير وبلا أي مسوَّغٌ قانوني أو جُرمٍ ارتكبوه أو خطورةٍ تعرضت لها منشآت أو إرهاب مواطنين آمنين، واعتقلوا الكثيرين منهم، وقاموا بإزالة كلِّ ما له علاقة بذلك الإعتصام السلمي ذو المطالب المشروعة بينما كانت المشاورات تجري على قدمٍ وساق لتسليم المقاليد لحكومة انتقالية تعيد البلاد للديمقراطية بأمر الشعب؟؟.. والى متى تظلُّ لجنة نبيل أديب تؤجل نشر ما توصلت اليه أو تسليمه للجهات العدلية؟؟ (وعموماً سننتظر تلك الثلاثة أشهر بفارغ الصبر عسىٰ أن يصدق تصريحها هذه المرّة) وإن كانت قد سبقتها قبل عام بعض المنظمات الحقوقية والإنسانية في نشر تقارير مُفصلّة عن تلك المجزرة التي ارتعدت من هولها الفرائص، ولا يختلفُ اثنان بأنَّ ارتكابها يتنافى مع أخلاق الحيوانات قبل البشر، ويخالف كافة الأديان السماوية.. وتبقى التساؤلات مطروحة أمام هذا التلكؤ المشين في تشكيل مجلس القضاء والمحكمة الدستورية؟؟ ولماذا يتحكم أذيال نظام القتل على نادي القضاة ونادي النيابة دون حسيبٍ أو رقيب؟ فهل من مُجيبٍ أيها المسؤولون؟ وهل من تحكيمٍ لصوت العقل في حسم هذه الفوضىٰ؟ ومتى ستُغلق تلك الملفات العالقة التي تأذّىٰ منها الآلاف من أبناء وبنات هذا الشعب المُسالِم؟؟
م. أكرم عمر
2 يونيو 2021م