يونيو 2021م
أكثر ما يخيفني في الموت، هو الوحدة. هذه الفكرة تلازمني مذ كنتُ طفلاً. أذكر نشأتها مع وفاة جدّتي أمّ أبي (أمّي فاطمة) التي كانت مشهورة في المجتمع بلقبٍ لم يكن مزعجًا بسبب رواجه وقِدمه. كانت تُسمى “عريجة”، رغم أنها لم تكن عرجاء، بل كانت رجلها اليسرى مقطوعة من فوق الرُكبة بسبب الغرغرنيا لمّا كان عُمرها 45 عامًا، في بداية الستينيات من القرن الماضي، وفي أجواء الحرب أيام ثورة اليمن على المملكة المتوكلية التي وصلت نيرانها لحدود نجران. فلم نُخلق إلا وهي تتحرك في بيتنا عبر قطعة سجاد صغيرة تحتها، تُمسكها بيدها من الأمام، وتُخرج قدمها بجانبها، ثم تدفع بجسدها وتسحب السجادة معها صوب ما تريد. وُلدنا كلّنا عندها وتحت رعايتها، وازدهرت طفولتنا بسعادة خدمتها، وتلقي هداياها الكثيرة، وخباياها البهيجة من البسكويت والحلوى.
لمّا تُوفيت، جلستُ ساعةً قُدّامها وهي ملفوفة في كفنها بالبيت قبل الذهاب للمقبرة. أتذكّر تلك الظهيرة دون غبش. كنتُ أحدّق في صدرها، منتظرًا أن يتحرك بفعل أنفساها لأسرع بإزالة القماش الأبيض الذي يلفّ بإحكام وجهها الشريف. لم أكن خائفًا من أنها ماتت، كنتُ خائفًا من أنّها حيّة، وأنّهم استعجلوا عليها. لكن بعد أن دفنوها وأطعموها البلاد، عرفتُ أنني فقدتها للأبد. بكيتُ لأولّ مرّة على قبر، وشاهدت دموع أبي للمرّة الأولى والأخيرة. وصار خوفي من أن تكون جدّتي واعية في مكان ما، هناك، في وحدةٍ لا تُصدّق، ونحن بِعاد.
كنتُ أحاول فهم وحدتها تلك بسؤال طفولي بريء: سجادتها ليست معها، من سيقرّب لها ما تريد؟
من يومها، وأنا عالق في مخافة الموت كسبب مُحتمل للوحدة المطلقة. فكّرت مليّاً بذات الرهبة حين تُوفي خالي الأحبّ، أمّا حين انتقل أبي، فقد انفلق فؤادي خوفًا من شعوره بالوحدة، فظللت عامين أزوره كل يوم، وخذلته بعدها لا أسلّيه إلا بعد حين. ولمّا دفنتُ بعده العديد من أحبابي وأصدقائي وأقاربي، كنت أقولُ إن حزننا محتوم بنسيانٍ وسلوة، وإن شوق الحيّ سيهدأ وتبرّده الليالي والناس. أما الوحدة، فوحدها لا تُناش ولا تُخدع. الزمن فيها لا يركضُ، غير أن وحوش التخيّل عند الوحيد، لن تتوقف عند التهام الوجود.
قبل 3 أيام، خرجتُ من الحجر الصحي المفروض عليّ بعد إصابتي بفايروس كورونا كوفيد-19، لم تكن تلك الأسبوعين عاديّة بالمرّة، ولا أعني هنا مرض الجسد رغم بعض الآثار القاسية، إنّما تلكم الأفكار القديمة التي خرجت عليّ كالأفاعي. لقد كان قدري أن أصاب في الرياض، في الوقت الذي عائلتي في نجران، بيننا ألف كيلومتر، أتمثّل في أقصاها وحدة مفاجئة لا تُصدّق، تسوّرها الحُمّى والجفاف، والإسمنت.
هذه المرّة، لم أخف من الموت ولا من وحدة تعتقلني بعده، كان خوفي من أن يعتقد (عمّار) هذا، من إنني سأكون وحيدًا خاليًا من رفقته طوال غيابي.
هذه المرّة، عرفتُ أنّ حَمْل الخوف القديم صار كبشًا بقرنين عظيمين، ولم أنتبه لسنواته ولا أين كان يرعى، وماذا كان يرعى.
تعافيتُ الآن، وتعمّدت ألا أخبر أحدًا من الأصدقاء والأحباب الكُثر، واقتصر الوصل في فترة الإصابة على الأهل، أو الأصدقاء الذين يتواصلون معي في يومياتي بشكل دؤوب. لم أكن أريد أن أربك أحدًا، ولا اشغال من يرى وجوب الاطمئنان. كما لم أرد الكتابة في خضمّ الأمر كفعلٍ استهلاكيّ ساذج مع هذه الجائحة التي تُهدد الناس وتُخيفهم. وما كتبته الآن هو نِزال مُتخيّل صغير بعد انقضاء المعركة، أو لعلّه محاولة لتنظيف زجاجي وتحسين الرؤية، عبر إعادة تدوير أجدى الأسئلة: ما الحياة دون الحبّ؟ من عداه يجعل الغائبين حضور؟ ومن عداه يعاند الوحدة العاوية؟!
امنياتي ودعواتي بالشفاء لكل مصاب، وبالسلامة والصحة والعافية للجميع.