أصبحت دولة جنوب السودان تنظر إلى عمقها الاستراتيجي بعيداً من المصالح السودانية التي عارضتها كثيراً قبل تكوين الدولة، من خلال الحركة الشعبية لتحرير السودان ودخول الأخيرة مع الحكومة السودانية في حرب منذ العام 1985، واضطرت إلى مجاراتها أحياناً إلى أن توصل البلدان إلى توقيع اتفاق السلام الشامل (نيفاشا) عام 2005، الذي مهّد إلى انفصال الجنوب وتأسيس أحدث دولة في العالم عام 2011.
تزامناً مع تعمق الأحداث بين إثيوبيا والسودان ومصر، بسبب سد النهضة الإثيوبي، أعلنت دولة جنوب السودان التخطيط لبناء سد على نهر النيل لأهداف أعلنت أنها لمنع الفيضانات وتوفير الطاقة الكهرومائية، وتوفير مياه الشرب النقية وللري، وفي حين حذر البعض من مخاطره المترتبة على دولتي المصب، السودان ومصر، قلل البعض الآخر من تلك المخاطر لأنه سيُقام على النيل الأبيض وليس على النيل الأزرق، المصدر الرئيس لمياه النيل، كما راهنوا على عدم مقدرة دولة الجنوب على تنفيذ المشروع نسبة إلى المشكلات الاقتصادية والسياسية والحرب الأهلية منذ العام 2013، ولكن حكومة الجنوب صرحت بأن اعتماد الدولة سيكون على الاسثمارات الصينية في النفط وعائداته.
طبيعة النيلين
على الرغم مما تشكله السدود من تدخل في مجريات الأنهار الطبيعية، إلا أن الحاجة التنموية تفرض هذا التدخل في بعض الأحيان، ولكن عندما تكون الأنهار مشتركة، وهذا هو السائد في معظم الأنهار العالمية، فيما يغيب عادة عامل مراعاة مصالح الدول الشريكة. وقد خلقت أزمة سد النهضة صراعاً جيوسياسياً بين إثيوبيا من جهة والسودان ومصر من جهة أخرى، وأثرت في منطقة القرن الأفريقي، بل طالت قضايا وأزمات عدة تهم المنطقة.
حصد سد جنوب السودان المُحتمل جزءاً من الاهتمام بسد النهضة، ولكن من غير المتوقع أن يُحدث تحولاً لافتاً نسبة إلى اختلاف طبيعة النيل الأزرق والأبيض، إذ إن النيل الأزرق هو المكون الرئيس لنهر النيل، ويسهم بالنسبة الأعلى والأقوى من المياه المتدفقة من بحيرة تانا بإثيوبيا، بينما يتدفق الأبيض بهدوء من منبعه في بحيرة فكتوريا في أوغندا وتنزانيا، وبسريان ثابت نسبياً على أرض دولة جنوب السودان عابراً ست دول قبل أن يصل إليها صعوداً إلى الشمال نحو السودان، مقترناً بالنيل الأزرق في الخرطوم، ليستمر في مسيرته نحو الشمال إلى مصر.
وليس كمثل تأثير سد النهضة المقام على النيل الأزرق، فإن طبيعة النيل الأبيض هي التي أوحت بالتقليل من خطورة السد الذي يُعتزم إقامته عليه، فمن قبل أعلن السودان في ظل الدولة الموحدة عن إقامة مشاريع سدود بيدين وشكولي وفيولا على بحري الجبل والغزال، وهما رافدان للنيل الأبيض في الجنوب، ولكنها لم تر النور، فللجنوب سد واحد هو سد مريدي الذي شُيد منذ عام 1955 في مقاطعة مريدي في ولاية غرب الاستوائية، وأُعيد تأهيله عام 2008 بعد أن دمرته الحرب. وقللت بعض الأصوات من عزم إثيوبيا إقامة سدود أخرى على روافد النيل الأزرق على نهري اتشوا وأدار لتأثيرهما المحدود في جريان النيل الأزرق، ولوقوعهما على رافدين فيشترط إقامة سدود صغيرة.
توجهات جديدة
ضمن هذا الإطار، فإنه لن تتأثر إقامة السدود في جنوب السودان بتبعات الحرب الأهلية وحسب، بل كل مشاريع التنمية أيضاً، فالدولة لا تزال عبارة عن إقليم قبلي تخضع فيه الأرض لأعراف القبائل المتنازعة عليها، ويقع التأثير الأكبر للصراعات في منطقة البحيرات، خصوصاً مناطق البيبور وجونقلي، وهي المنطقة التي قدّم مشروع إنشاء قناة مائية فيها قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان الراحل جون قرنق، وهي المنطقة المتاخمة للحدود السودانية – الإثيوبية، التي ربما تزيد من أزمة الحدود بين السودان وإثيوبيا، وهذا ربما أقعد المحاولات السابقة مع دولة الجنوب في إقامة سدود، كمحاولة أوغندا إقامة سد حدودي بينها وبين جنوب السودان.
هذا التقارب الجيوسياسي بين جنوب السودان وبعض دول حوض النيل، مثل كينيا وأوغندا وبوروندي ورواندا وتنزانيا، التي تخطط بدورها لبناء سدود على النيل، منذ توقيعها بشكل منفرد على اتفاق “عنتيبي”، الذي رفضته القاهرة والخرطوم، أعطى جنوب السودان نفساً آخر ليلعب بأوراق جديدة يتغلب بها على العقوبات الدولية وحصاره تنموياً وإثبات وجوده ضمن هذه المنظومة، ويمكن القول إنه لم تعد حبيساً لإرث الحرب بينه وبين الشمال، إذ يرى في حربه الداخلية مصيراً طبيعياً يمكن التغلب عليه بتوعية الشعب وفرض السلطة الكافية.
وتنطلق حكومة جنوب السودان من فعالية جيرانها في مشاريع التنمية، ولكن بالنسبة إليها فهي مرهونة بأوضاعها الاقتصادية والسياسية والأمنية، وعليه تبدو الحكومة غارقة في نزعة التضخيم بتبني مثل هذه المشاريع، حتى لو لم تكن ذات جدوى اقتصادية كبيرة، إلا من قبيل المصادمة والكسب السياسي. ويحاول رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت خلق رأي عام موحد تجاه مشاريع حكومته الاقتصادية، بعد أن فشلت المشاريع السياسية، واتساع الهوة التي تفصل بين نظامه والشعب، وهو ما أعطى أبعاداً وتوجهات جديدة للحكومة لتنخرط في طريقة فعالة في سماء الحياة السياسية الجنوبية، ومنها قيام سلفا كير في مايو (أيار) الماضي بحل البرلمان، وهو مطلب ظلت المعارضة تطالب به لتمهيد الطريق أمام تعيين نواب منها، وفقاً لاتفاق السلام الموقع لإنهاء الحرب الأهلية التي بدأت في 2013.
دور الصين
عند سؤال نائب وزير خارجية جنوب السودان دينق داو دينق في شأن مصدر تمويل السد، أشار إلى اعتماد بلاده على عائدات النفط، وذكر للصحف أن “جنوب السودان يخطط للحصول على استثمارات أجنبية للمساعدة في بناء السد من الصين، وأنها كانت المستثمر الأجنبي الرئيس في البلاد، وتوجد مشاريع مشتركة ضخمة أطلقتها مؤسسة البترول الوطنية الصينية المملوكة للدولة”.
تجدر الإشارة إلى أن الصين كانت تؤيد بقاء السودان موحداً، كي لا يضر الانفصال وما يترتب عليه من اقتسام النفط بمصالحها النفطية، وفي تلك الفترة، منذ اتفاق “نيفاشا” 2005، ركزت الصين على التعامل مع حكومة الخرطوم وحكومة إقليم الجنوب بطريقة متناغمة، تضمن لها التعاون بعد الانفصال، وبعد زيارة سلفاكير الذي كان نائباً أول للرئيس عمر البشير إلى الصين عام 2007، أسست الصين لعلاقة مع جنوب السودان من خلال الدولة الموحدة، وكعلاقة جانبية حققت تعاوناً مع الجنوب في مجالات التنمية المتمثلة في بناء المدارس وحفر الآبار وتوفير الأجهزة الطبية، وافتتحت بكين قنصلية لها في العام 2008، ثم زار وزير الخارجية الصيني وقتها يانغ جيتشى جنوب السودان في التاسع من أغسطس (آب) 2011، كأول وزير خارجية من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن.
وأكد خلال تلك الزيارة “دعم بلاده لجهود صيانة سيادة جنوب السودان، واستعداد بلاده لتقديم ما في وسعها من مساعدات في مجالات النفط والتعدين والزراعة والبنية الأساسية وغيرها”.
وتبدو الصين الأقرب لإنشاء سد جنوب السودان، إذ لم يكن خلاف جنوب السودان مع السودان، أو تعاون الصين مع الحكومة المركزية، عائقاً لها لرعاية تطلعاتها، فقد ظلت تدير علاقاتها وفقاً للفرص المتاحة، وظلت هي المستورد الأول للنفط السوداني، والمزود الأول للخرطوم بالسلاح، والداعم الأساس للنظام السوداني، وبعد أن ذهبت 75 في المئة من احتياطات النفط السوداني المقدرة بأكثر من 6 مليارات برميل تقع في باطن الأراضي الجنوبية، كانت أيضاً معها.
شعور بالخطر
رفعت أزمة سد النهضة الشعور بالخطر على الأمن المائي في حوض النيل، وظهرت بعدها رؤية السودان ومصر لفرض بعض أشكال التعاون الأمني، ولا يعني ذلك بالضرورة إقامة تحالفات أو نظام أمن رسمي، ففي الواقع أن تلك المهمة كان يُعهد بها للاتحاد الأفريقي حين عرفت منطقة القرن الأفريقي توتراً سياسياً وعسكرياً، وحين نشأ التوتر في قضية الأمن المائي بسبب سد النهضة، ولكن الأخير أُضيف إلى بؤر الصراع المفتوحة في المنطقة، مما يلقي بظلال كثيفة على أمن المنطقة بكاملها، أما مشروع سد جنوب السودان، وإن رُجح التخفيف من خطورته، إلا أن منطق إقامته في هذا التوقيت يُلتقط ضمن عوامل الصراع الذي يشير إلى موقف تنافسي بين السودان وجنوب السودان من جهة، وبين جنوب السودان وبقية دول حوض النيل من جهة أخرى.
نقلا عن “اندبندنت العربية “