الخلافات والمشاكسات التي تواجه الحكومة الانتقالية من داخلها ومن خارجها، ومحاولات مناهضتها وتعريتها وإسقاطها لا تمثل سوى أجندة شمولية تريد أن تقطع الطريق على المسار الديمقراطي.
الشموليون ليس هم الكيزان فقط، الذين يريدون أن تسير الثورة على هدى فكرهم الايدولوجي الخاص هم شموليون، الذين يفاوضون في الحكومة الانتقالية لتركيعها وتركيع الشعب السوداني وفرض اجندتهم الخاصة هم شموليون، الذين يختطفون المؤسسات المهنية والجماهيرية المستقلة من أجل تمرير اجندتهم الحزبية هم شموليون، الذين يثيرون الفتن الجهوية والقبلية من أجل الحصول على المكاسب والمناصب هم شموليون، والذين يحاولون الهيمنة على السلطة الانتقالية أو حاضنتها وإقصاء الآخرين هم شموليون.
معظم هؤلاء الشموليين ينخرطون في هذه الأجندة الشمولية بدون وعي، لا يظنون انهم يفعلون بالوطن ذات الأشياء المحرمة التي فعلها البشير والنميري وعبود واوردت البلاد موارد الهلاك، معظمهم في غيبوبة المخمور المنتشي الذي يظن نفسه واعيا لاتخاذ القرارات، لهذا هم في حوجة لمن يوقظهم، هم في حوجة لتيرمومتر خارجي يقيس لهم مستوى الشمولية الذين يعانون منه.
الشمولية تعني استخدم كافة الوسائل للسيطرة وفرض الرأي الواحد، وهي صفة مغايرة تماما لفكرة الثورة الجوهرية التي بنيت على المشاركة والوحدة، وعلى نبذ الخلافات، وابعاد الهيمنة والسيطرة، وإشاعة روح التوافق والشراكة.
من يريد السيطرة انتصارا لرايه او فكرته الخاصة ويملك الأسلحة والوسائل اللازمة لفعل ذلك، أو يملك سلطة الدولة، فهو شمولي ويعمل لعودة الشمولية.
حراك الشارع في ثورة ديسمبر المجيدة كان كافيا للاطاحة بالدكتاتور مهما كانت العراقيل والعقبات، فالشعب والأجيال الجديدة خاصة وصلوا مرحلة اللا عودة وحددوا خياراتهم في اسقاط البشير وبناء وطن لا يشبه سودان الإنقاذ.
الشارع الثائر كان يظن ان السياسيين والعسكريين والحركات المسلحة سيتضامنون مع هذا الهدف ويتمنهجون بهذا المنهج الوطني الذي يقدم الوحدة والعمل المشترك على الخلاف والشمولية، ولكنه أصيب بخيبة الأمل في الكثيرين بعد انتصار الثورة.
ابتداءا بانفراد المجلس العسكري بالسلطة ومحاولته إقصاء المدنيين، ثم اختطاف كوادر حزب سياسي معين لتجمع المهنيين، ثم هيمنة أحزاب صغيرة على المجلس المركزي للحرية والتغيير، ثم مفارقة أحزاب سياسية للحكومة من أجل فرض ايدولوجيتها هي لا غيرها، ثم اختطاف لجان مقاومة من قبل أحزاب سياسية، ثم شروط الحركات المسلحة التعجيزية للوصول للسلام.
كل هذه الممارسات اوحت للجماهير بانه (مافيش فايدة)، وان الطبيعة الشمولية انتقلت من الإنقاذ إلى الكثيرين، حتى أولئك الذين كانوا يناضلون ضد الشمولية، وهي بالضبط الأزمة الراهنة التي نشاهد فصولها يوميا في السودان.
ما يهم في هذه العتمة ان طيفا واسعا من السودانيات والسودانيين الذين لم يكن من ضمن اهتماماتهم على الإطلاق الأمور السياسية وقضايا الحكم، اصبحوا الآن على درجة عالية من الوعي السياسي والفهم المتعلق بقضايا الحقوق والحريات.
التحول الدارماتيكي في وعي الناس العادية في بلادنا بفعل ثورة ديسمبر قد يكون هو الحصانة الوحيدة أمام المخططات الشمولية لاجندة السياسيين والعسكريين والحركات المسلحة، المخططات الواعية او غير الواعية.
كيف يمكن أن يهزم وعي الناس هذه المخططات نتحدث عنه في المقال القادم.
يوسف السندي
sondy25@gmail.com