غلب المال الحرام الغلاب أمريكا وبريطانيا حتى أخرجها من طورها. فتداركت القضاء الطبيعي مكرهة بقوانين تعترف هي نفسها بمفارقتها للقضاء العادي. وهذا هو القضاء الطبيعي الذي تهرج به الثورة المضادة عندنا حيال مأزق رموزها الذين ولغوا في السحت. فسنرى كيف تجاوز تحدي مكافحة المال الحرام في ذينك البلدين بعض اعتبارات هذا القضاء.
فتعترف بريطانيا بأنها صارت مهبط المال الحرام العالمي بلا منازع. فيغسل الفاسدون في سوقها ما قيمته ٩٠ بليون جنيه إسترليني تتسرب إليها من روسيا، ونيجريا وأذربيجان بالاسم ناهيك من صغار سمك الفاسدين من ساسة العالم الثالث.
فهاك حكاية عن غاسلة أموال في بريطانيا من أذربيجان. بل هي “ممصرة” أموال. اسمها زاميرا حاجييف (حاجة. الله يعرك كما قال محمد إبراهيم نقد في مناسبة ما) زوجة جاهنقر حاجييف رئيس مجلس إدارة بنك أذربيجان الذي اختلس من مصرفه ٢ فاصل ٢ بليون جنيه إسترليني. ويقضي الآن حكماً بالسجن. وخلال ما كان زوجها يُعب من مال شعبه وينهل انفقت زاميرا ١٦ مليون جنيه إسترليني في التبضع في أسواق لندن. واشترت عقارات بمبلغ ١١ فاصل ٥ جنيه إسترليني وميدان قولف. وسهلت شركة في جزيرة الفيرجنآيلاند لها هذه المعاملات. وسنرى كيف حلت عليها إجراءات إنجليزية لم تلتزم بحرفية القضاء الطبيعي.
سبق لي الكتابة عما اضطرت إليه الولايات المتحدة من تلك الإجراءات التي فارقت فيها القضاء الطبيعي لمواجهة تدفق المال الحرام في اقتصادها. فيقع حجز الأموال الحرام ومصادرتها في أمريكا تحت طائلة القانون (9-111-000). وهو من اختصاص وزارة العدل الأمريكية. وتتولاه إدارة فيها ترمز لها الحروف (MLARS)* تتربص بغسيل الأموال واسترجاع الممتلكات المسروقة. وصفة هذه المصادرات أنها تلك التي كان قد ينتفع منها أفراد ومنظمات ضالعة في جرائم المال. وقيل إن هذه الإدارة صادرت أموالاً في ٢٠١٤ بأكثر مما سرقه الحرامية من سائر الشعب الأمريكي. ومن صلاحياتها، ضمن أشياء أخرى، إدارة برنامج المصادرة في الوزارة بما في ذلك رد الأموال والممتلكات المصادرة لأهلها ضمن جهات أخرى. فهي ترد المال إلى أهله أو الدولة وتملكهم إياه بغير نظر من المحاكم.
وأكره زفر المال الحرام بريطانيا لتفويض وكالاتها النيابية بما عرف بقانون “من أين لك هذا؟ (Unexplained wealth order). فمتى اشتبهت هذه الوكالة أن هناك من امتلك منقولات بما لا يتناسب ومستوى دخله طلبت من المحكمة العليا أن تصدر أمراً ب “من أين لك هذا؟”. ومتى اتفق للمحكمة معقولية طلب الوكالة أصدرت الأمر لتضع الوكالة يدها مباشرة على المال والمنقولات حتى لا يتصرف فيها مالكها المشتبه. وتطلب الوكالة بعد ذلك من هذا المالك أن يقنعها بأن ممتلكاته التي حجزت عليها هي من حر ماله. ومتى لم تقتنع الوكالة بتوضيحه طلبت إذناً مدنياً بالاستيلاء على تلك الممتلكات وردها لصاحبها الأصلي. وربما كان البلد الذي نهبوا تلك الأموال منه.
وكان أول أمر بريطاني ب”من أين لك هذا؟” بحق معرتنا زاميرا حاجييف. ولم تقتنع الوكالة بتوضيحاتها فصادرت الوكالة ممتلكاتها ببريطانيا.
كيف فارقت القوانين الأمريكية والبريطانية موضوع حديثنا وهو القانون الطبيعي؟
نأتي لبيان المسألة من مدخل سلبي. فمن آيات مفارقة هذا الترتيب “الاستثنائي” أن له نقاده من دعاة الحريات المدنية. ففي أمريكا يأخذون عليه انخفاض درجة الإثبات قياساً بالقضايا المدنية والجنائية. فالبينة فيه ليست على من ادعى، بل على من أنكر(reverse onus clause). وتنتقد دوائر حقوقية في بريطانيا أيضاً جعل البينة على المتهم لا على من ادعي (وهي الوكالة النيابية). ولكن برهنت قضية الحاجييف، الله يعرهم، أن طلب البينة من المتهم أجدت.
وامتد رأس سوط “من أين لك هذا؟” البريطاني للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب. فطالبت منظمة للشفافية من حكومة اسكوتلندا أن “ترقع” ترمب بأمر “من أين لك هذا؟” ليشرح لها المصادر التي اشترى بها ممتلكاته في اسكوتلندا. وبالطبع كانت ثارت التهم حول أمر ترمب بأن يقيم العسكريون الأمريكيون في فنادقه ببريطانيا في ترحلهم بين أمريكا ودول العالم. ودا مال لبدا. وصرف ترمب الذائعة كملاحقة ساحرات أخرى.