هذا منظر يجبرك على التوقف عنده وانت تحوقل ،
670 ألف من الرايات البيضاء ، حولت العشب الأخضر المحيط بنصب واشنطن التذكاري الى بحر أبيض متوسط يكسوه بهاء ورهبة ، هذا العدد الهائل من الرايات ترمز كل واحدة منها لإنسان قضى عليه فايروس كرونا ، كل راية مقابل حياة فقدت ، كل راية ترفرف وراءها قصة تراجيدية مفجعة وألم وتعاسة وموت فى عزلة دون اعتراف ، فما أضعف الانسان. الرايات البيضاء تحتل مسافة 10 بوصات فى مساحة 20 فدانا .. رايات بقدر ما تستطيع العين ان تراها ، الناس يأتون الى هنا للتامل وكتابة رسائل شخصية لأحبائهم رفاق محطات الحياة الجميلة.
وقفت امس على شاطىء هذا البحر المتلاطم الامواج متأثرا بالاستجابة العاطفية التى رأيتها فى وجوه الناس وعيونهم الدامعة . العرض إسمه امريكا تتذكر ، وهو يجسد حقيقة المعاناة الجماعية المستمرة واليأس من رائحة الموت بسبب كوفيد ١٩. لقد ارتبطت الراية البيضاء فى مخيلتنا بالاستسلام فى الحروب منذ اتفاقيات لاهاى لكنها هنا للتذكير بضحايا كرونا وتضامن الأحياء معهم .
أغلب الذين يقفون الى جوارى يتحدثون عن قصص خسارتهم الشخصية ومرارة فقد اصدقائهم وأقربائهم ، ويتذكرون الفراغ الذى تركوه خلفهم وقال أحدهم بنبرة حزينة وجادة : يجب أن يكون هناك لونان من الرايات ، واحد لأولئك الذين ماتوا قبل توافر اللقاح وواحد لأولئك الذين اختاروا عدم أخذ اللقاح ، فردت عليه سيدة ترتدى ثوب حداد اسود قائلة إن مايمزق القلب هو سوء حظ أولئك الذين ماتوا قبل أن تتاح لهم فرصة الحصول على اللقاح والعيش ، وتداخل آخر قائلا : أولئك الذين اختاروا عدم تلقيحهم يجب ألا يحصلوا على راية. اما الذى يقف على يسارى فقد بدا مثل اولئك الذين لا يعجبهم العجب ولا الصيام فى رجب وقال بصوت هامس ان نصب رايات الحداد على وفيات يمكن منعها من خلال اتباع تدابير الصحة العامة وتجاهل موتى السرطان والقلب والامراض غير المعديه يعد عملا سياسيا فاشلا ، وقال انه رغم ايمانه بالمآسي وراء وفيات كرونا وشعوره بالألم لا يؤيد رفعهم الى درجة اعظم من غيرهم .
من جانب اخر رأيت الناس يبحرون فى بحر الرايات البيضاء والأمواج ترقص تحتهم
والريح تُتبع ذاك بالتصفيقِ ويدونون رسائل شخصية على الرايات وكأنهم يحاولون ملأ فجوات القلب التى سببها غيابهم واعادة صياغة أنفسهم على نحو جديد ربما .. فى احداها كتب شخص لقريبه انه يفتقده ويقول له على الدوام انت شغيل جاد ويطلب منه الاستمرار فى أداء مهمته كسائق شاحنة ، وكتبت أخرى لوالدتها تطلب منها مواصلة الأحلام وترجوها أن تحلم عنها . بينما كتب اخر لعمه بانه يفتقده ويحبه ويحب حشرة يونيو المعروفة بالانجذاب للأضواء فى الصيف ربما لوجود قصص بينه وبين الحشرة تختزنها ذاكرته .
وقد علمت ان الفنانة التى انجزت هذا العمل الابتكارى من المؤمنين باستخدام
الفن كوسيلة للتركيز على القضايا الاجتماعية وانها قد بدات منذ مارس 2020 فى وضع تصوراتها لفكرة زرع هذه الرايات نتيجة لانزعاجها من بيان حاكم تكساس القائل بأن على الامريكيين الاستعداد لمواجهة مخاطر كرونا لحماية الاقتصاد الأمريكي ، حيث فكرت فى بيان مضاد له يتيح للناس فعل ما يمكنهم للوقوف مع موتى كرونا وتقدير أرواحهم الهالكة .
فى هذا المكان حضرت تنصيب أوباما مرتين ، فى المرة الاولى فى صباح 20 يناير 2009 قالت لى سيدة مسنة من اصل أفريقي عندما رأت أسناني تصطك من البرد القارس : أنت تشهد التاريخ يصنع أمام عينيك وهذا كاف لتدفئتك.. و اليوم وفى زمهرير الحر وأنا أقف على شاطىء بحر الرايات أدركت أن موتى كرونا قد منحوا الموت قوة مؤثرة هائلة وانهم يصنعون التاريخ أيضا !!!