بدل ان يكون القضاء على الانقلاب الذي استهدف السلطة الانتقالية مدخل لوحدة المكونين المدني والعسكري في مواجهة الذين يبحثون عن الإطاحة بهم، حدث العكس، تصريحات قادة المكون العسكري بالأمس الأربعاء جاءت غريبة ومفارقة لما يجب أن يكون عليه الواقع بعد فشل الانقلاب.
بدل ان يستنكر القادة العسكريون الانقلاب الذي خرج من داخل القوات المسلحة وليس من خارجها، من زملاءهم في الجندية وليس من شركاء الانتقال المدنيين، هربوا إلى الأمام لمهاجمة قوى الحرية والتغيير وتحميلها وزر الانقلاب!! وهو حديث غريب لا يمكن تفسيره الا على طريقة واحدة وهي أن العسكريين ( ناوين ليهم على نية) .
لو يتذكر البرهان وحميدتي فإن احزاب الحرية والتغيير التي تشاركهم الآن في السلطة تنازلت بصورة مؤلمة لها وللثوار المدنيين عن أهدافهم في حكم مدني كامل، فقط من أجل العبور بالوطن وتفادي الصدام الذي قد يغرق البلاد في حرب أهلية، وهو التنازل الذي قاد لانقسامات مؤثرة في صفوف الثوار المدنيين وكان أحد أهم أسباب فشل العمل الثوري للحكومة التنفيذية حيث أصبح الشارع متنازع بين تيار المشاركة وتيار تسقط تالت. التنازل الذي قدمه تيار المشاركة هو أقصى تنازل تستطيعه القوى السياسية الثورية، فلا يحسبن البرهان وحميدتي ان هذه القوى السياسية ستتنازل لهم أكثر من ذلك.
ما يؤسف له أن التركيبة الدكتاتورية التي عاش فيها السودان معظم فترات حكمه بعد الاستقلال جعلت العسكريين يعتقدون أنهم أوصياء على هذا البلد، وجعلتهم يظنون انهم فوق الدستور وفوق الشعب، لهذا حين ارتفع في هذه الفترة الانتقالية صوت النقد القاسي للعسكر شهدنا نمطا متتابعا في الانقلابات العسكرية، والهدف واحد بكل تأكيد من هذه الانقلابات وهو إعادة هؤلاء المدنيين الذين خرجوا عن الطاعة العسكرية والعرف السياسي في البلد إلى بيت الطاعة حيث يجب أن يؤدبوا بالبوت والسجن والرصاص!! هكذا يفكر العسكريون الانقلابيون، وهو فكر متخلف لا ينتمي إلى هذا العصر، ولا يقود إلى الأمام.
لهذا كلما مضت الفترة الانتقالية وتوطدت أركان الدولة المدنية يعلم العسكريون ان مستقبلهم في هذا البلد هو ان يكونوا مواطنين سودانيين خاضعين كجميع المواطنين لسلطة دولة القانون، ويظهر لهم مع الايام وارتفاع سلطة القانون انهم لا يستطيعون أن يستغلوا قوة البطش والسلاح التي تعودوا عليها في مواجهة المواطنيين في السابق، ويظهر لهم ايضا ان اي تعدي للخطوط الحمراء يعني المحاسبة الرادعة، مع الايام وجدوا أنفسهم في مستوى واحد مع ( الملكية )، فشعروا بأن امتيازاتهم التاريخية قد سحبت، وهنا ظهر رفضهم وممانعتهم للتغيير، وتمظهر هذا الرفض في صور متعددة: انقلابات، توجيه اتهامات للمدنيين، طلب حصانة، التراخي عن ضبط الانفلاتات الأمنية، والخ.
من تجارب العالم ثبت أن الدولة الحديثة التي تستطيع تحقيق الرفاه والعدالة والعيش السعيد لمواطنيها هي الدولة المدنية التي يخضع فيها الجميع مدنيين وعسكريين لسلطة القانون، والخضوع لسلطة الدولة المدنية لا يعني ضعف في العسكريين ولا سحب لامتيازاتهم وإنما يعني مساواة المواطنين جميعا بغض النظر عن مهنتهم وعرقهم ودينهم أمام القانون، هذه المساواة سوف توفر للعسكريين وللمدنيين على السواء حياة محترمة وكريمة تستوفي كل احلامهم وتطلعاتهم.
الدول المحكومة بنمط الدولة المدنية هي الدول الأعظم والأكثر سعادة ورفاهية في العالم، بينما الدول التي يسيطر عليها الحكم العسكري الدكتاتوري فهي الدول الأكثر بؤسا وفقرا وجهلا وتخلفا في العالم، لذلك على العسكريين ان يفكروا بطريقة مختلفة في مستقبلهم ومستقبل هذا البلد، وليعلموا ان المستقبل الكريم لهم ولأسرهم وابناءهم وأهلهم وجميع السودانيين لا يمر عبر الانقلابات وانما يمر عبر طريق الدولة المدنية، وهو الطريق الذي اختاره وسيمضي فيه شعب السودان حتى نهايته، شاء من شاء وأبى من أبى.
يوسف السندي
sondy25@gmail.com