مرت التجربة الديمقراطية في السودان في نسخها الثلاثة منذ الاستقلال بتعقيدات كبيرة على صعيد الممارسة السياسية والأزمات التي فشلت في حلها من جانب، وعلى صعيد القوى المتربصة التي أسهمت في اغتيالها ونحرها من جانب آخر،إذ اتسمت التجارب في مجملها بعدم الإنجاز الاقتصادي والاجتماعي وسيادة الصراع السياسى السلبي، وبما أن التجارب الثلاث قد تأسست على قاعدة الديمقراطية الليبرالية المستمدة من مباديء جون لوك ومونتسيكو والتي تمثل تجارب انجلترا وفرنسا وأمريكا أميز تجلياتها. هنا يثور تساؤل حول التجربة السودانية هل لشكل النظام الديمقراطي المتبع دور في عدم استقرار التجربة ورسوخها؟وهل كان نظاما مناسبا ومتسقا مع بنية المجتمع وتطوره؟ الديمقراطية مفردة لاقت تداولا واسعا دون اتفاق على هذا المفهوم وأحيانا إضافة تحاول أن تعطيه خصوصية لدرجة التجريد.
ان التنوع الذي لازم المفهوم الديمقراطي كأساس للحكم الراشد في الأدب السياسي تبعه تنوع تجارب التطبيق وتنوع مفاهيمي ديمقراطية مباشرة وغير مباشرة، وديمقراطية شعبية واشتراكية وليبرالية وتوافقية.. الخ
يهتم هذا المقال في تقصي مفاهيمي عن مدى مواءمة الديمقراطية التوافقية كمفهوم حديث نسبيا لواقعنا السوداني بتعقيداته السياسية والاجتماعية والثقافية المعروفة؟
مفهوم الديمقراطية التوافقية:
الديمقراطية التوافقية هي نوع من الديمقراطية التمثيلية، تتميز عنها بتراجع الصراع السياسي بين الأغلبية والاقلية وتعويضه بالتوافق والحكم الجماعي والأخذ بأكبر عدد ممكن من الآراء واشراك الأقلية المنتخبة في الحكم او السياسات الكبري… ويكيبيديا
ترجع فكرة الديمقراطية التوافقية consensus democracy إلى المفكر الهولندي ارنت بيهارت، كأحد نماذج الديمقراطية الحديثة في إطار ماتقدمه من معالجات لبعض الأزمات التي تعاني منها المجتمعات ذات النسق التعددي في سبيل استنهاض كافة مكوناتها الاجتماعية والسياسية والثقافية القومية ودون القومية، وقد عرفت ايضا بالديمقراطية التكاملية.
أشار بيهارت في كتابه الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد، إلى أن الديمقراطية التوافقية تعبر عن استراتيجية في إدارة النزاعات من خلال التعاون والوفاق بين مختلف النخب، بدلا من التنافس واتخاذ القرارات بالاغلبية، وهي تعتبر الانسب لمواجهة ملامح مجتمعية تنذر بصراعات داخلية قائمة او محتملة، وهذا عينه ماتمثله سمات الواقع السوداني الماثل.
شاعت الفكرة بعد الحرب العالمية الثانية وتطورت في بلجيكا وهولندا وسويسرا والنمسا وكندا لما تتمتع به هذه الدول من تعدد القوميات واللغات.
ارتبطت الديمقراطية التوافقية كشكل من اشكال الممارسة السياسية في البلدان المتعددة والمتنوعة اجتماعيا وثقافيا والتي تعاني من ضعف في مقومات التوحد الوطني وتوترات وانقسامات، إذ تستهدف الديمقراطية التوافقية إشراك جميع المكونات الاجتماعية الاغلبية والاقلية كضمانة لعدم الانزلاق في مواجهات وحروب اهلية. وهنا ثمة سؤال مهم وضروري هل تضع الديمقراطية التوافقية حلولا للمجتمعات المتعددة حقا؟ وهل تعتبر حلولا حاسمة؟
ان التجانس الثقافي والاجتماعي عامل مهم لتحقيق نظام ديمقراطي مستقر وقد استعاضت عنه التجارب الديمقراطية في صيغ دستورية ضمن نظام الحكم كالنظام الفيدرالي القائم على توزيع السلطات وتفويضها بين المركز والأقاليم(أمريكا والمانيا) في النموذج الليبرالي وسويسرا والنمسا وبلجيكا وهولندا وكندا في النموذج التوافقي.
ممالاشك فيه ان الانقسامات تهدد وجود الدولة نفسها مايصبح معه الحديث عن نموذج ديمقراطى ونظام حكم ضربا من الخيال. يعتمد نجاح الديمقراطية التوافقية على عمق القيم الديمقراطية والقناعة الشعبية بها كأساس للحكم وكثقافة مجتمعية لتغليب المصلحة الوطنية.
مرتكزات الديمقراطية التوافقية:
بحسب بيهارت فإن الديمقراطية التوافقية تقوم على ركائز أساسية هي:
-حكومة ائتلافية واسعة التكوين تشمل كل الأحزاب والمكونات الاجتماعية..
-التمثيل النسبي لمختلف الأحزاب والتكوينات الاجتماعية.
-حق الفيتو المتبادل بين الاكثريات والأقليات بغرض منع احتكار السلطة والتسلط.
-الإدارة الذاتية للشؤون الخاصة بكل جماعة.
ان وجه المقارنة بين الديمقراطية الليبرالية والديمقراطية التوافقية يكمن في استناد الديمقراطية الليبرالية إلى قبولها المطلق بمفهوم الأغلبية سواء كانت اغلبية متغيرة تتطلب مجتمعا متجانسا اجتماعيا ودينيا بمايمكن من تحقيق تحول في إطار التجربة، أو أغلبية ثابتة عرقية او دينية لايمكن تحولها ويمكن قهرها بواسطة الأغلبية التمثيلية كاقليم أيرلندا في بريطانيا وإقليم الباسك في اسبانيا وتجربة قهر الاغلبية الهندوسية للمسلمين في الهند ماادي إلى انفصال باكستان وبنغلاديش، وفي الكيان الصهيوني قهر الأقلية اليهوديةللاغلبية الفلسطينية، وفي جنوب أفريقيا سابقا في ظل نظام الفصل العنصري الأقلية البيضاء وقهرها للسود الأغلبية.
ان الانتقاد الأساسي الذي قدم للديمقراطية التوافقية بحسب دعاته انها تتناقص وحكم الاغلبية الحائزة على اغلب الاصوات وهذا الادعاء لاتدعمه النسب الحقيقية التجميعية إذا حسبت نسبة الأصوات من المجموع الكلي، يبقى هنا إن الديمقراطية التوافقية طريق آمن لنيل كل مكون استحقاقاته الفعلية من واقع الكلية الانتخابية العامة تشكل مانعا لازمات التهميش السياسى وخلافه، وكذلك مانع من الانفصال بين مكونات الدولة الوطنية.
تعتبر الديمقراطية التوافقية مهمة في دول العالم الثالث وضمنها قطرنا لأنها منقسمة طائفيا ودينيا وحديثة النشوء، بالإضافة إلى مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية وتخلفها التكنولوجي،اذ هي احوج ماتكون إلى التوافق على مشروع وطني دستوري منطلق من التحديات الوطنية ووحدة المصالح وصولا لدولة العدالة والمساواة والمواطنة المتساوية .