يقول المثل الشائع عند العطاوة “البقارة”: (الموت ما يخوّفك إلّا لمّا يشِيلْ سجِيلَكْ !!) والسجيل هو الصديق الحميم.
لست أدري أهي الصدمة جراء خبر فقد الأعزاء – إذ يقع علينا الخبر كالصاعقة في هذه البلاد البارد شتاؤها حد التوحش – أم هي رهبة جلال الموت، ذلك الكأس الدائم كما سمعنا كبارنا يرددون هذه العبارة الحكيمة منذ نعومة أظفارنا. اليوم غلبتني الكتابة يا أبا “سارة”، وأنت ترحل بهدوء رغم أنك خضت منذ الطفولة حتى الكهولة ما يثير النقع ويحدث الضجيج وسط خصومك وأحبابك. كنت تفعل ذلك بكل ما فيك من نجابة العقل وشجاعة الفتى الذي لا يهاب الموت. رحلت يا أخي ورفيق محاط العمر المترعة بالنضال ونحن في أشد الشوق لجلسات ملؤها أحاديث في هموم الوطن والوطن الأصغر. لكم أعجبتني قدراتك في الإلمام بأنساب الأهل وتاريخ المنطقة الذي يرويه الأجداد. وكم أتحفتني بالأمثال الشعبية. تحكي لي وعلى وجهك ابتسامتك المضيئة. تحكي وكأنك حكيم من حكماء المنطقة. وكأني أنا الزائر ضعيف الحيلة بجغرافيا وتاريخ هذا الجزء من بلادنا. رحلت يا عبد الرسول النور إسماعيل – حفيد الفقيه أبو سماعين الولي ، الكائن مزاره شرق مدينة بابنوسة، ووطنك في أمس الحاجة إلى الرجال والنساء الصناديد.
لن أكتب كثيراً عن الراحل المقيم ، لسببين اثنين. أولهما : أنني ما كرهت بين أصناف الكتابة مثل أدب المراثي. وفي المعطى الثقافي السوداني تلك المقولة البائخة : (الله لا جاب يوم شكرك.) أي أننا لا نمتدح أفعال الشخص وهو حي بيننا ، وكأننا نستكثرها عليه. لكن من إن نواريه الثرى حتى نحكي في سيرته وعظمته ما فعل وما لم يفعل. هذا نفاق لا حدود له. والسبب الثاني في كراهيتي لأدب الرثاء هو أن الحديث عن تجربة الميت – بسلبها وإيجابها – لا يجوز وقد أهلنا عليه الثرى ودموعنا لم تجف. ربما من الإنصاف لموتانا أن نصبر بعض الوقت لنكتب عنهم وعن إنجازاتهم ما يقبله العقل قبل العاطفة. وهذا باب آخر.
ورغماً عن كل ما ذكرت هأنذا أكفكف دمعي يا أبا “سارة” وأنكب لأكتب كلمات قليلات إنصافاً لزمالة عمر ، سبقتنا فيه بالفضائل وسبقتنا بنهايته للقاء الرفيق الأعلى. تقبلك الله عنده في أعلى الفراديس.
صفات عرفتها في الراحل المقيم عبد الرسول النور. عرفتها عن كثب. دخلنا المدرسة الأولية في ذات اليوم ، لكن في مدرستين مختلفتين. كان من أنجب التلامذة في فصله. واحتفظ عبد الرسول النور بهذا الذكاء طيلة حياته. كان حاضر البديهة إذ يحدثك. وكان مستمعاً جيداً لما تقول. ومن الصفات الحميدة التي لمستها فيه أنه كريم أجواد.. والقول السوداني المادح للكريم هو : (الراجل قدح) ، أي أن الشهامة والكرم صفة أساس في الرجل السوداني. كان بيت الراحل المقيم فاتحاً للضيف وللغاشي والماشي. أما الصفة الحميدة الأخرى التي عرفها عنه رفاقه في النضال ضد حكومات الإستبداد ، فهي الصبر على ظلمة السجون وبيوت الأشباح وما تجود به على الشرفاء والمناضلين من عذاب جسدي ونفسي. إقترب عبد الرسول النور من حبل المشنقة. ولحكمة يعلمها الله استبدل الطغاة حكم الإعدام شنقاً بالسجن. كان ذلك أيام الجبهة الوطنية بقيادة الراحلين: الصادق المهدي والشريف حسين الهندي. ثم إن الفقيد كان ضيفاً على بيوت الأشباح – ناتج ثقافة نظام الأخوان المسلمين سيء السمعة في السودان.
ومن صفاته التي أعجبتني – رغم اختلافي الوقوف معه تحت مظلتها- إخلاصه لعقيدته السياسية عمراً باكمله. كان وفياً لحزب الأمة وكيان الأنصار. بل كان مخلصاً للقيادة التاريخية لهذا الحزب في كل منعطفاته.
إمتلك الراحل المقيم كل هذا الرصيد النضالي لكنه لم يكن ليخوض في الحكي عنه..وكأنه يقول لك : أين نحن من الشهداء الذين دفعوا الروح من أجل هذا الوطن؟
ودّعنا اليوم مناضلاً سودانياً – اتفق البعض معه في انتمائه السياسي أم عارضوه – لكنه سيبقى أحد أعمدة سيرة الحياة السياسية السودانية في كدح إنسانها من أجل قيام وطن يبحث عن مكانه الراقي بين الأمم.
أما على صعيد الوطن الأصغر فإنّ كردفان قد فقدت واحداً من أبنائها المخلصين. ولعلي أنتهز هذه السانحة لأتقدم بالعزاء لأسرة الفقيد ولجميع أهلنا في المجلد والميرم وبابنوسة والتبون والفولة ولقاوة، وأخص أسرة العمدة مسلم أبو القاسم وعمودية أهلنا الفيارين حفظة كتاب الله. والعزاء لحزب الأمة وكيان الأنصار في هذا الفقد الجلل، ولأصدقاء الفقيد في الكيانات السياسية السودانية على اختلافها ، فقد ظل عبد الرسول النور طيلة حياته يعرف ما نشأنا عليه في عدم الخلط بين اختلاف الناس في المزاج السياسي وما يجمعهم كسودانيين أصيلين يعرفون ويحترمون العادات والقيم والأخلاق.
يطوينا ليل الحزن في فراقك يا أخي عبد الرسول النور ، لكننا لا نقول إلا ما يرضي الله سبحانه وتعالي.
فضيلي جمّاع – لندن
مساء الجمعة 7 يناير 2022م
fjamma16@yahoo.com