المسئولية الأساسية في انجاز التوافق الوطنى المناسب والمطلوب من القوى المعارضة للانقلاب هو مسئولية سياسية بإمتياز وتقع على عاتق كل الأحزاب السياسية الديمقراطية، ويجب عليها العمل الجاد لانجازه بوعى وإرادة وصبر وحزم ويجب أن تبدأ القوى السياسية بالحوار فيما بينها اولا لإنجاز الرؤية والبرنامج ثم الدخول في حوارات مع مختلف القوى غير السياسية. سوف استعرض في مقالات متلاحقة وصفا لما عليه المشهد الوطنى عامة، وما ينقص الموقف الوطنى والثورى المعارض، متكئا على مقارنة بما كان عليه الحال إبان الثورات الوطنية الناجحة في أكتوبر وأبريل وما عليه حالنا الماثل..
إعلام الأنظمة الدكتاتورية وسلوك القوى المتطرفة بطرفي المعادلة السياسية في أقصي اليسار واليمين أثناء وبعد ثورة أكتوبر مرورا بمايو وما بعدها حتى الإنقاذ وإلى الآن، ظل معاديا لقيم الديمقراطية. وادى ذلك لتشكيل طبقة ومجموعات من أعداء النظم الديمقراطية الإنتخابية والدولة المدنية. من ضمن هذه المجموعات كوادر مهنية عالية الإنتهازية تخصصت في خدمة الانقلابات وصار لها قاموس متوارث في كيف تصنع الدكتاتور وتمكن الانقلاب. من قادة هذه الطبقة المهنية الانتهازية والأول بلا منازع بروف علي شمو، الذي شب وشاب ووصل إلى شفا الموت وهو خائن لضمير أمته وخادم وفي للانقلابات على ثورات الشعب وعلى الحكومات الديمقراطية المنتخبة، ولا فرق عنده ان كان المنقلب شيوعيا لينينيا أحمر أو كوزا انتهازيا كذاب أشر.
السلوك السياسي للحزب الشيوعي وللكيزان في مختلف منصاتهما، منذ الاستقلال والى الان يؤكد عدم إيمانهم بالديمقراطية والدولة المدنية. للأسف ظل الوطن ضحية لصراعاتهم وتدافعهم من أجل اختطاف الدولة عبر التمكين او بالانقلاب على إرادة الجماهير. الشئ الذي أدى لتدمير بنى الدولة المدنية الحديثة التى تركها المستعمر فتاكلت عبر السنين بسبب التمكين المصاحب للانقلابات.
لقد ضيع طرفي المعادلة السياسية في السودان الحلم السودانى في اقامة نظام ديمقراطى تعددى، نحن السودانيون الأكثر وعيا كنخبة والافضل تأهيلا كمجتمع لإنجازه والتعامل معه، من بين كافة الدول بالاقليم. ولن يكتب لأى ثورة سودانية الآن أو في المستقبل القريب او البعيد النجاح في بناء دولة مدنية ونظام ديمقراطي انتخابي، اذا لم يتم مواجهة هذين الحزبين والوصول معهما لمقاربة اما بالاتفاق على ضرورة تجاوز صراعهما العدمى الذي دمر الوطن وضيع الفرص تلو الفرص، أو حشرهما بالزاوية وفق إرادة واجماع وطنى واسع يكشف أجندتهم المتآمرة على إرادة الجماهير ويمنعهم من ممارسة العمل السياسي بقانون الى ان يعودوا لرشد الوطنى..
أخطأت ومازالت تخطئ القوى غير الحزبية باختطافها لكل المشهد الثورى، من لجان مقاومة وقوى مدنية وبعض الأحزاب الصغيرة وبعض المتطلعين الصغار على ظهر اشلاء الأحزاب الكبيرة، عندما إجتمعوا على تغييب الأحزاب الوطنية الكبيرة صاحبة الخبرة وغيبوا الجماهير، في إعتقاد خاطئ وطفولى منهم، أن الأمر قد دان لهم وأنهم قادرون على إنجاز الأحلام وتزوير المطالب الثورية بانجاز دولة مدنية ونظام ديمقراطى مفصل علي احجامهم الصغيرة وقدراتهم المتواضعة، وتوهموا أن الأمر يمكن إنجازه بكل يسر وأن الأعداء قد انكسروا. فبالغوا في الاستعراض وإطلاق الاجنحة لأحلام اليقظة حتى أصبح عليهم وعلى الوطن الصبح..
القراءة الموضوعية لمسيرة الوطن منذ للاستقلال تؤكد أن أعداء الدولة المدنية والنظام الديمقراطي الحقيقيون هما الشيوعيون والكيزان، تساعدهم بسوء التقدير المجموعات الحالمة من قوى حديثة والانتهازيون. يجب أن تصوب الإرادة الثورية والوطنية اليهم مباشرة وإلى معالجة مؤامراتهم بالمواجهة والحوارات العميقة وليس المجاملة وقبول الاستقطاب والاصطفاف معهم وضدهم هنا وهناك. هؤلاء هم الأعداء الحقيقيون للحلم الوطنى، وليس العساكر.
العساكر دورهم في كل الانقلابات كقيمة الكلاشنكوف الذي يحملونه، هم مجرد أدوات تستخدمها القوى المعادية للديمقراطية من يسار شيوعي ويمين اسلاموى انتهازى في مواجهة إرادة الجماهير التى تمثلها الثورات، ويمثلها ايضا انتخاب الأحزاب الوطنية الديمقراطية الأصيلة كحزب الأمة القومى والحزب الإتحادى الديمقراطي. ويظل الباب مفتوحا أمام هذين الحزبين وامام كل القوى الحديثة بالتدريج لتنال ثقة الجماهير وتحكم عندما يترسخ النظام الديمقراطي وتتمكن هذه القوى الحديثة من الخروج على تعثر خطاها تحت تأثير خطابات عدوى الديمقراطية السودانية.
خطابات القوى الانقلابية وأعداء إرادة الشعب من اصحاب الديمقراطية الموجهة من شيوعيين واسلاموين انتهازيين، صنع طبقة من الطوباويين الذين ابتلعوا الطعم واندفعوا في مواقف دعائية فارغة وعدائية بلا مبرر موضوعي ضد الاحزاب الوطنية الديمقراطية الكبيرة، فتبنوا بلا وعى منهم مواقف مجردة واخرى حالمة فوق طاقة الوطن في انتهازية واختطاف ظاهر وبلا ادنى إعتبار للمشتركات الوطنية والمصلحة في ترسيخ النظام الديمقراطي والدولة المدنية التى تحمى الحرية للجميع ليعمل ويسعي بين الجماهير إلى أن يتاهل للحكم. الشئ الذى دفع المشهد للاستقطاب الحاد وعجل بعودة الكيزان مجددا.
أخطات لجان المقاومة والقوى غير السياسية من مدنية وتجمع مهنيين ونقابات، عندما ظنت أنها هي كل المشهد، فتبنت كل الأجندة السياسية وعزلت القوى الوطنية الديمقراطية صاحبة الخبرة في التعامل مع الأنظمة الانتقالية وفي تقدير خيارات الوطن الأوفق.
ان وقوع الانقلاب وما سبقه من مشهد مرتبك وفوضوي مع عدم القدرة على إدارة الدولة وتنفيذ أجندة الثورة المحددة بالوثيقة، كان هو الفشل الذي أحبط الشارع وأغري أعداء الثورة وأدى للانقلاب. ولا يمكن وصف ما حدث باى وصف غير الفشل الذي ضيع الثورة العظيمة.
ولا مجال لإصلاح هذه المآلات المحزنة إلا بمناقشة الاسباب وبالمواجهة والمصارحة واستيعاب الدروس وتحمل المسئوليات امام الشعب ثم الإنطلاق مجددا برؤية أكثر شمولية ومخاطبة لاسباب الفشل واكثر استيعاب وتمثيل للآخر الوطنى. هذه الخطوات وحدها لا غيرها يمكن أن تعيد ثقة الشعب وتدفعه مجددا للقتال مع قواه الحية لهزيمة أعداء الوطن والديمقراطية..