كشفت الحرب الروسية الأوكرانية عن جانب فكري، غير النواحي العسكرية والسياسية، جانب مرتبط بالنظرة العنصرية الأوروبية لشعوب العالم الثالث، وهي النظرة التي امتدت من تحقير القوميات، والأعراق، وصولا إلى الديانة، حتى أن نائبا بولنديا لم يخجل من التصريح بقوله:” استقبلنا مليوني لاجيء أوكراني، ولن نستقبل مسلما واحدا “، هذا عن الدين، أما عن التمييز على أساس اللون والبشرة فقد جاء في قناة ” بي بي سي” الانجليزية على لسان روس أتنكز الذي قال بالنص إنه :” حزين لرؤية أوروبيين بيض، بعيون زرق، يقتلون”! وبرز التمييز على أساس قومي في تصريح تشارلي داغاتا موفد قناة ” سي بي أس نيوز” الأمريكية الذي قال : ” مع كل الاحترام، أوكرانيا ليست مكانا مثل العراق أو أفغانستان” ! وجمعت مراسلة قناة ” إن بي سي نيوز” بين التمييز على أساس الدين وعلى أساس اللون في قولها : ” إن اللاجئين من أوكرانيا يختلفون عن القادمين من سوريا، لأنهم بيض ومسيحيون”! ووضعت مراسلة ” آى تي في ” الانجليزية الحدود بين شعوبنا وأوروبا حين قالت عن أوكرانيا : ” هذه ليست دولة من دول العالم الثالث”، ثم أوشكت على البكاء وهي تضيف: ” هذه أوروبا”! نعم. هذه هي أوروبا يا سيدتي الفاضلة. أوروبا التي لم تنزع العنصرية من نفوس أبنائها بعد أكثر من نصف على الاتفاقية الدولية الموقعة عام 1965 برعاية الأمم المتحدة للقضاء على كل أشكال التمييز العنصري إن كانت على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي. لكن انقضاء أكثر من نصف قرن لم يعلم ” أوروبا ” المتحضرة شيئا متحضرا. ولا يقتصر الأمر على التصريحات، لكن تلك النظرة تتجسد وتتحرك على أرض الواقع عندما تفتح البلدان الأوروبية أبوابها للنازحين الأوربيين وتوفر لهم كل وسائل الراحة، ثم تغلق تلك الأبواب بعنف في وجه السمر، والأفارقة، ومواطني الشرق الأوسط، وتغلظ في وجوههم كل اجراءات الرقابة الحدودية. ولا شك أن اتضاح تلك النظرة العنصرية هي أولى خسائر أوروبا في الحرب الروسية الأوكرانية، وهي خسارة إنسانية على مستوى الحضارة أكبر بكثير من أي خسائر عسكرية، خاصة أن كل تلك التصريحات وردت على ألسنة من يفترض أنهم نخبة المجتمع الأوروبي من مراسلين ونواب برلمانات وسياسيين.
واحقاقا للحق لابد أن نقول إننا في بلادنا قد نرتطم أحيانا بميول عنصرية بالنسبة لذوي البشرة السمراء مثلا. وأذكر أنني عندما سافرت إلى الاتحاد السوفيتي عام 1972 كنت على قدر كبير من الوعي والثقة بأن البشر كلهم سواسية، وأن كل أشكال التمييز العنصري بغيضة ومرفوضة. وتصادف أنه في السنة الدراسية الأولى كنا سبعة طلاب، خمسة من أوروبا ، وأنا، وطالب أفريقي أسود. تفوق الأفريقي في امتحانات اللغة علينا جميعا. وأحسست حينذاك بالغضب. ورأيت في نفسي للمرة الأولى جانبا عنصريا، وذعرت من نفسي، فقد كان عقلي يقف ضد التمييز بداهة لكن تكويني سنوات عمري كله خذلني . العنصرية إذن تكوين نفسي وعقلي ثقافي طويل يتشكل ويترسخ بالتربية، في المنزل، وفي المدرسة، والجامعة، وبالاختلاط مع الآخرين، وفي كل الأحوال إذا كان لشعوب العالم الثالث عذرها في ظروف التخلف، فليس لأوروبا أية أعذار، على الأقل نحن لا نتبجح كل نصف ساعة بالحديث عن حقوق الانسان، وعن المساواة، والحرية، وادعاء أننا ضد التمييز العنصري.
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصريالعنصرية بين المعرفة والتكوين
د. أحمد الخميسي
كشفت الحرب الروسية الأوكرانية عن جانب فكري، غير النواحي العسكرية والسياسية، جانب مرتبط بالنظرة العنصرية الأوروبية لشعوب العالم الثالث، وهي النظرة التي امتدت من تحقير القوميات، والأعراق، وصولا إلى الديانة، حتى أن نائبا بولنديا لم يخجل من التصريح بقوله:” استقبلنا مليوني لاجيء أوكراني، ولن نستقبل مسلما واحدا “، هذا عن الدين، أما عن التمييز على أساس اللون والبشرة فقد جاء في قناة ” بي بي سي” الانجليزية على لسان روس أتنكز الذي قال بالنص إنه :” حزين لرؤية أوروبيين بيض، بعيون زرق، يقتلون”! وبرز التمييز على أساس قومي في تصريح تشارلي داغاتا موفد قناة ” سي بي أس نيوز” الأمريكية الذي قال : ” مع كل الاحترام، أوكرانيا ليست مكانا مثل العراق أو أفغانستان” ! وجمعت مراسلة قناة ” إن بي سي نيوز” بين التمييز على أساس الدين وعلى أساس اللون في قولها : ” إن اللاجئين من أوكرانيا يختلفون عن القادمين من سوريا، لأنهم بيض ومسيحيون”! ووضعت مراسلة ” آى تي في ” الانجليزية الحدود بين شعوبنا وأوروبا حين قالت عن أوكرانيا : ” هذه ليست دولة من دول العالم الثالث”، ثم أوشكت على البكاء وهي تضيف: ” هذه أوروبا”! نعم. هذه هي أوروبا يا سيدتي الفاضلة. أوروبا التي لم تنزع العنصرية من نفوس أبنائها بعد أكثر من نصف على الاتفاقية الدولية الموقعة عام 1965 برعاية الأمم المتحدة للقضاء على كل أشكال التمييز العنصري إن كانت على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي. لكن انقضاء أكثر من نصف قرن لم يعلم ” أوروبا ” المتحضرة شيئا متحضرا. ولا يقتصر الأمر على التصريحات، لكن تلك النظرة تتجسد وتتحرك على أرض الواقع عندما تفتح البلدان الأوروبية أبوابها للنازحين الأوربيين وتوفر لهم كل وسائل الراحة، ثم تغلق تلك الأبواب بعنف في وجه السمر، والأفارقة، ومواطني الشرق الأوسط، وتغلظ في وجوههم كل اجراءات الرقابة الحدودية. ولا شك أن اتضاح تلك النظرة العنصرية هي أولى خسائر أوروبا في الحرب الروسية الأوكرانية، وهي خسارة إنسانية على مستوى الحضارة أكبر بكثير من أي خسائر عسكرية، خاصة أن كل تلك التصريحات وردت على ألسنة من يفترض أنهم نخبة المجتمع الأوروبي من مراسلين ونواب برلمانات وسياسيين.
واحقاقا للحق لابد أن نقول إننا في بلادنا قد نرتطم أحيانا بميول عنصرية بالنسبة لذوي البشرة السمراء مثلا. وأذكر أنني عندما سافرت إلى الاتحاد السوفيتي عام 1972 كنت على قدر كبير من الوعي والثقة بأن البشر كلهم سواسية، وأن كل أشكال التمييز العنصري بغيضة ومرفوضة. وتصادف أنه في السنة الدراسية الأولى كنا سبعة طلاب، خمسة من أوروبا ، وأنا، وطالب أفريقي أسود. تفوق الأفريقي في امتحانات اللغة علينا جميعا. وأحسست حينذاك بالغضب. ورأيت في نفسي للمرة الأولى جانبا عنصريا، وذعرت من نفسي، فقد كان عقلي يقف ضد التمييز بداهة لكن تكويني سنوات عمري كله خذلني . العنصرية إذن تكوين نفسي وعقلي ثقافي طويل يتشكل ويترسخ بالتربية، في المنزل، وفي المدرسة، والجامعة، وبالاختلاط مع الآخرين، وفي كل الأحوال إذا كان لشعوب العالم الثالث عذرها في ظروف التخلف، فليس لأوروبا أية أعذار، على الأقل نحن لا نتبجح كل نصف ساعة بالحديث عن حقوق الانسان، وعن المساواة، والحرية، وادعاء أننا ضد التمييز العنصري.
د. أحمد الخميسي
قاص وكاتب صحفي مصري