حدّثونا منذ نعومة أظفارنا عن الخير والشر. وكبرنا لنقرأ عن هذه المعادلة التي لا تستقيم الحياة دون صراع هذين قطبيها، وغلبة أحدهما على الآخر ولو مؤقتاً. فالحرب تستعر لأتفه الأسباب. لتقضي على آلاف بل ملايين البشر. وإذ يحل السلام، تضيء الوجوه بالإبتسام ، وتتحول يدُ الإنسانِ التي قاومت آلةَ الحرب إلى صانعةٍ لأجدى أدوات البناء ، وأروع الأفكار في إعمار الحاضر. زارعو الخير هم الذين يبدعون الحياة ويغرسون أنبل معانيها. فالأغنية التي يرقص على إيقاعها الفتيان والفتيات لا تبدعها إلا غريزة خيّرة ملهمة. وبذات الفهم فإن اليد الباطشة التي تصنع الرعب والدمار لا يمكن أن تزرع في التربة غير الضغائن والفتن والخراب. تلك معادلة لا يختلف فيها إثنان.
حدثونا عن الخير والشر في طفولتنا. عن صراع الفتي الشجاع والغول البشع الذي يخطف فتاته الجميلة. وتقع المعركة بين الخير والشر.. فينتصر الخير. يصرع الفتى الشجاع الغول الشرير، ويفوز بفتاته الجميلة. ذاك ما عرفناه في أحاجينا ونحن أطفال ، نتحلق حول “الحبوبة” وهي تحكي لنا سيرة الخير والشر بخيالها البديع.
وكبرنا ، لندخل معترك الحياة بخيرها وشرها. نفس المعادلة. بيد أنّ الخاتمة ليس بالضرورة أن تكون حالمة ومفرحة كما في قصة الفتي الشجاع والغول الشرير. كبرنا لنجد أنّ الغول في بلادنا له سبعة أرواح. البعض يقول أنّ للغول في بلادنا سبعين روحاً. كيف لا وقد ولد جيلي ليشهد لعبة “عسكر وحرامية” بدءاً بطفولتنا، وها نحن يصبغ بياض المشيب رؤوسنا. لم نستطع على مدى 65 عاماً – عمر استقرلال بلادنا – أن نقيم حلم أجيال عديدة بالدولة المدنية – دولة الحرية والمساواة في الحقوق والواجبات. كلما ثار شعبنا وطرح الدكتاتورية العسكرية جانباً .. كلما كبرت أحلامنا بدخول حديقة عصر الصناعة والرفاه ، نظر أحد عسكر السودان إلى علامات رتبته العسكرية على كتفه. وزحف مع أغبياء مثله على ظهر دبابة. ليعلنوا عبر المذياع أنهم أوقفوا حداً للفوضي في البلاد (يسمون نعمة الحرية فوضى)! وأن البلاد ستنعم بالأمن والرخاء. ثم يبدأ الحرب على شعبه.
نصف قرن هي الحرب التي زهقت فيها أرواح الأبرياء في جنوب السودان. نصف قرن وجيش بلادنا يشن الحرب على مواطنين كل ما طلبوه أن يتم إنصافهم في الحكم والمعيشة والإعتراف بهم كمواطنين ، لهم ذات الحقوق مثل غيرهم. وفصلوا الجنوب، ليشعل البشير وزبانيته الحرب في دار فور وفي جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق. وباقي القصة يعرفها الجميع!
إنّ حصيلة صراع الخير والشر في السودان اليوم هي أنّ عسكر السودان في نسختهم الأخيرة لا يرون في هدير شارع ثورة ديسمبر غير العدو. معذورون .. فهم لم يحاربوا طيلة تاريخ الجندية بعد الإستقلال إلا شعوبهم. ولم يضعوا علامة الترقيات والإمتيازات على أكتفاهم إلا على جثث قتلاهم من مواطنينا في أصقاع البلاد المختلفة. أتحدّى اكبرهم رتبة أن يقول بأنه نال لقب (أركان حرب) لأنه حارب عدواً طامعاً في حدود بلادنا. لم يحدث ذلك قط. بل إنّ ما يحدث اليوم هو أنّ رقعةعزيزة من بلادنا محتلة ، وهم يغضون الطرف عن المحتل.. وكل همهم أن يسكتوا هدير شارعنا الثائر منذ ثلاث سنوات وثلاثة أشهر ، حتى صار شعبنا مضرب المثل في البطولة وخوض معركة الحرية!
وأمس صحا الفقراء الذين يجاهدون في كسب العيش الحلال بعرق الجبين ، صحوا ليجدوا أن قوات أمن نظام القتلة قد تسللت في ساعات الصباح الأولى لتزيل “طبلياتهم” وتنهبها. ولتجعل من بضاعة “الفريشة” في ميدان جاكسون والسوق العربي أثراً على عين. وإما احتج “الغلابا” على هذا الظلم البشع أوسعتهم شرطة النظام ضرباً بالعصي ، بل أمطرتهم قذائف البمبان والرصاص الحي!! وهكذا تتحول دولة العسكر الإنقلابيين إلى دولة قراصنة. لذا لن يصدقهم أحد مهما حكوا عن شراكة المصير وعن الوطن والمواطن!
يقول الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632-1704 م) : “إنّ الشرطيَّ الذي يجاوزُ حدودَ سلطاتهِ، يتحوّلُ إلى لصٍّ أو قاطعِ طريق! ”
لقد رأينا في حياتنا يا جون لوك منظومة أمنية عسكرية بأكملها تتحول إلى قطّاع طرق!!
فضيلي جمّاع – لندن
31 مارس 2022
fjamma16@yahoo.com