حسُناً، الحرب في أوكرانيا تسير في خطّها البياني المَرْسوم… على الأقل بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، بالنظرِ إلى أنّ إدارة بايدن نجحت في “إعادة فرض سيطرتها وهيمنتها لا على الكثير من الدول فقط، وإنّما على تكتُل دول، والأهم على أحداث وتطورات، وباتت تصنعها”، وهي حالة جديدة لمْ يكُنْ يَجْرؤ أنْ يحلم بها حتّى أكثر الديمقراطيين الأمريكيين اعتداداً بسياسة حِزبه وقُدْرات دولته وأجْهِزتها، خاصة بعد الهروب “الصِحّي”، كي لا يُقال “المُخْزي”، من أفغانستان حيث تعلّق متعاونون مع الإدارات الأمريكية على مدى السنوات العشرين الماضية بعجلاتِ الطائرات التي كانت تقْلِع من مطار كابول. وإذا أخذنا الأمر من الآخر، يبدو أنّ الروس ينسحبون إلى دونباس، فهل حقّقت وكالة المخابرات المركزية (سي أي ايه) أهدافها بالحرب في أوكرانيا؟ تلك، بتصرُّف، خُلاصة تقرير تحليلي نشرته صحيفة (ناتسيونال) الرومانية تحت زاوية “خبطات تاكي” الاستقصائية الشهيرة. ولا ريب أنّ القارئ يجِد إجابة على سؤال التقرير، ضِمْنيّاً، داخل السؤال نفسه، ينْطُق الإجابة ولا ينْتظِر أنْ يقرأها، وعليه المطلوب معرفة ما هي تلك الأهداف، وكيف حققتها واشنطن؟ وهل يشْرَح تقرير الصحيفة الرومانية هاتين المسألتين؟ دعونا نلقي نظرة خاطِفة على الماضي القريب جِدّاً ونَنْظُر للولايات المتحدة الأمريكية من الداخل والخارج بعيداً عن ولاية الرئيس السابق الجمهوري رونالد ترامب، مركِّزين على ولاية خليفته الديمقراطي جو بايدن التي مضي منها أكثر من سنة، وتنتظِر في نوفمبر القادم انتخابات التجديد النِصفي لمجلس النواب، وعادة بعد النِصف الأوّل من الولاية الرئاسية الأولى يستعِد ساكن البيت الأبيض لتجديد عقد أقامته فيه لولاية ثانية.
قراءة الحقائق من فوق المِجهر: يضع تقرير صحيفة (ناتسيونال) الولايات المتحدة تحت المِجْهَر، ويقرأ حقيقتين داخلية وخارجية ويربطهما مع بعض، مُشيراً إلى أنّه عندما كان جو بايدن ينهار في استطلاعات الرأي الداخلية بعد المائة يوم الأولى من ولايته، لم تعُد إدارته على الصعيد الدولي تَجْرؤ حتّى على ضرب المائدة بقبضتها، وهي تعلم جيّداً أنّه لم يعُد هناك مَن يرتجِف أمامها ليبتلِع أي عرض يُمْكِن رفضه. وتَسجِّل القراءة من فوقِ المِجهرِ، أنّ أعظم الإهانات الدبلوماسية والاقتصادية والاستخباراتية التي عانى منها مبعوثو إدارة بايدن كانت في أوروبا الحليفة، خاصة وأنّ الاتحاد الأوروبي بعد ارتفاع أصوات ذات وزن وتأثير داعية لتشكيل جيش خاص للاتحاد، بدأ يظْهِر المزيد من الدلائل على أنّ التكتُّل سئم “الهيمنة” الأمريكية، وخاصة “رسوم الحِماية” الباهِظة التي ظلّ يدفعها لفترة مريرة وطويلة، وواشنطن تطلُب زيادتها. فهل هذا صحيح؟ الشاهد أنّه لمْ يكن هنالك أي أحد من واشنطن يروِّج لـ “الغاز المُسال” الأمريكي في أوروبا، وبالإضافة إلى ذلك، بدأ حتّى أكثر رؤساء الحكومات الأوروبية ولاءً في تبديد الوقت وجعله يمضي حتّى لا يوقِّع على عقودٍ جديدة لشراء الأسلحة مع مُقاوِلي الباطِن للبنتاغون. وعلاوة على ذلك، أصبحت “الأزمة الأمريكية” الأكثر إيلاماً في أوروبا يُنْظَر إليها على مستوى الأمن الجيواستراتيجي، وعملاء الولايات المتحدة تحت الغطاء الدبلوماسي يتمّ سحبهم زرافات ووُحدانا، وفي كثير من الأحيان بناءً على طلب “المضيفين” الذين سئموا “المؤشِّرات الثمينة” التي ترِد إليهم من الأقسام السياسية في السفارات الأمريكية بالعواصِم الأوروبية، وربّما في أغلب الأحيان لأنّهم ببساطة لمْ يَعُدْ يتوفّر لهم “موضوع العمل”، حتّى صاروا “أهدافاً” لنِكات زملاء في الأجهزة النظيرة. وفجأة تغيّر الوضع بشكلٍ جذري في غضون بُضعة أشْهُر فقط، وأصبحت الآن الولايات المتحدة الأمريكية، مرّة أخرى، ليست فقط “شُرطي العالم”، بلْ الحامي الوحيد المُعترف به لـ “العالم الحُر”. والدليل الأوضح حول ذلك، مشهد زعماء الاتحاد الأوروبي يوقعون بأعين مُغمضة ككُتلة واحِدة على شراء الغاز الأمريكي المُسال بدلاً من الغاز الروسي الذي تنقُله خطوط الأنابيب. وقِمّة الاستسلام الاقتصادي غير المشروط، تكْمُن في إرجاء تحديد “السعر الصحيح، وفي قراءة أخرى المٌناسِب” لوقتٍ لاحِقٍ، وفوق ذلك صارت جميع الدول الأوروبية، وليس فقط أعضاء الناتو، وإنّما المحايدة أيضاً، أي النمسا والسويد وفنلندا، تتزاحم لشراء أحدث الأسلحة الأمريكية.
الانتصار الأكبر وجبهة التجسُّس: لا غرو أنّ الانتصار الأكبر كان على جبهة التجسُّس “غير المرئية”، حيث طلبت جميع الدول الأوروبية بأنْ ترسِل لها واشنطن “فوراً” ليس فقط قوات جديدة، وإنّما “خبراء عسكريين”. ويبدو الأمر كما لو أنّ “الخبراء العسكريين” الأمريكيين انسحبوا على عجل من أفغانستان – كما يجري الهمس أكثر فأكثر على مستويات معينة في عواصم أوربية – للحصول على الراحة اللازمة استِعداداً لـ “إدارة” الغزو الروسي غير المفاجئ، بالطبعِ، لأوكرانيا… وإلّا سيكون من الصعبِ تصديق أنّ (سي أي ايه) من المُمْكِن أنْ تُولَد من جديد على هذا النحو كطائر الفينيق، من رمادها الأفغاني، في غضون بضعة أشْهُر فقط! لقد كان مُتوفِّراً لواشنطن حوالي أربعة أشْهُر لمنع اندلاع الحرب في أوكرانيا، مُنذ أنْ بدأ الكرملين في نشر أكثر من 100 ألف جُندي على حدوده في أكتوبر 2021 والى يوم 24 فبراير الماضي حيث دخلت قواته الأراضي الأوكرانية. أكثر من ثلاثة أشْهُر كانت كافية جِدّاً للتوصُّل لاتفاق هو نفسه الذي يجري بحثه والتفاوض حوله الآن، فلماذا يذهب الرئيس الأوكراني زيلينسكي لذات الاتفاق الذي كان مُتوفِّراً له قبل دمار بلده؟ ولماذا تدفعه واشنطن لاتفاق كان بين يديها تحمله في ملفاتها ولم تضعه بعد في الأضابير؟ ولماذا كان من الضروري أنْ تنطلِق الصواريخ والراجمات والقنابل ويحدُث الدمار ويموت مَن مات؟ هل تجريب قُدْرات القوات الروسية في اجتياح كييف واحتلالها وفشلها في ذلك، مُبرِّراً كافياً لإشعال حرب في أوروبا تنتِج ملايين اللاجئين؟ وهل الدمار الذي حدث في أوكرانيا يعادل ضرورة خضّ أوروبا وتخويفها من الدُب الروسي فتنصاع لاستِمْرارِ الحِماية الأمريكية وتعضيدها ودفع مُستحقاتها أضعافاً؟
ثلاثة قِمم ببروكسل في يوم واحد: كان، 24 مارس 2022، يوماً تاريخياً في بروكسل بعقدِ ثلاث قِمم، للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ومجموعة السبع (G7)، تناولت الحرب في أوكرانيا، والجميع كانوا يتحدثون فقط عن جو بايدن، وهو بايدن نفسه الذي قبل غزو روسيا لأوكرانيا، سجّل في استطلاعات الرأي ببلاده النتيجة الأكثر خجلاً بعد سنة قضاها في البيت الأبيض مُقارنة بأي رئيس أمريكي سابق، بينما اعترف جميع قادة الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن قادة الدول الأخرى الأعضاء في الناتو، مرّة أخرى بالتفوق الأمريكي.
الغاز الأمريكي… لا يختلِف اثنان أنّ أكثر نجاحات “القِمم الثلاثة التي حضرها في بروكسل الرئيس جو بادين ويمكن تسميتها “القِمم الأمريكية”، كانت بلا شك “الاتفاقية التاريخية” التي وقعها الرئيس الأمريكي جو بايدن مع رئيسة المفوضية الأوربية أورسولا فون دير لاين. وحقّاً كان الاتفاق “صديقاً للبيئة”، لذلك أصرّ الرئيس الأمريكي على القول مباشرة بعد التوقيع “اتخذنا خطوات مُهِمة لتقديم طاقة نظيفة. من المُهِم أنْ نفعل هذا ولا نتصادم مع ظاهرة الاحتباس الحراري. نحن بحاجة إلى القيام بذلك للامتِثال لقواعِدِ المناخِ ونحتاج إلى بناء بنية تحتية نظيفة وخضراء للطاقة”. ومن جهتها، لمْ تكلِّف رئيسة المفوضية الأوروبية نفسها عناء أنْ “تدوس على بدّالة” الاستراتيجية البيئية للعقدِ لتؤكِّد اقتناعها بالاتفاق، فمهرته بتوقيعها مُرحِّبةً به وهي تقول “لقد وقَّعنا اتفاقية مع الولايات المتحدة لتزويد الاتحاد الأوروبي بما لا يقِل عن 15 مليار متر مُكعَّب من الغاز الطبيعي المسال هذا العام، وما لا يقِل عن 50 مليار متر مُكعَّب سنوياً حتى عام 2030. وهذه الكمية ستكون ثُلث الغاز المُشْتَرى سنويّاً من روسيا”، لكنها لمْ تتفوّه بكلمة واحدة عن الثمن… على الرغم من أنّ “المساعدة الأمريكية!” التي أعلنها الرئيس بايدن ليست بأي حال من الأحوال “إنسانية”، فهي بالمال، وكثير من المال، فكيف تَقرأ هذا الاتفاق عندما تتذكّر أنّه قبل أيام قليلة فقط، قدّر المحللون الاقتصاديون الأوروبيون أنّ دول الاتحاد الأوروبي تدفع مليار دولار يوميّاً للشركات الروسية لتوريد الغاز والنفط، وسعر الغاز الأمريكي سيكون أكثر من خمسة أضعاف سعر الروسي؟ ألا يصبح عقد بايدن- لين بالفعل عقداً تاريخياً، على الأقل من حيث “المبلغ القابِع تحت المِجْهَر”؟
الغاز الروسي… ومع ذلك، لا ينبغي أنْ يشْعُر أي أحد بشفقة تجاه روسيا الاتحادية.. خاصة في مجال تجارة وصفقات الغاز. ولا نُشير هنا بالضرورة إلى حقيقة أنّه حتّى بعد مرور أكثر من شهر على الغزو، ما زالت موسكو تدفع “بقداسة” لأوكرانيا بالعُملة الحُرّة السِعر المُحدّد لنقل الغاز الطبيعي إلى بقية أوروبا، ناهيك عن أنّه مُنذ ذلك الحين، زادت التدفُّقات اليومية للغاز من روسيا بنسبة 50% مقارنة بأدنى مستوياتها في يناير الماضي، وقد أقرّ بذلك يوري فيترينكو نفسه، الرئيس التنفيذي لشركة (نافتاغاز NJSC) وهي أكبر شركة نفط وغاز مملوكة للدولة الأوكرانية. لا ننسى أنّه في نفس الوقت الذي جرى فيه الإعلان في بروكسل عن اتفاقية الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة للغاز الطبيعي المُسال، تم الكشف عن إعلان تاريخي آخر في موسكو، وقد أكد اليكس ميلر المدير العام للشركة الروسية الضخمة (غازبروم) بعد اجتماع مع ساينبويان امارسايكان نائب رئيس وزراء منغوليا، توقيع اتفاقية لتصميم وبناء خط أنابيب غاز طبيعي جديد يعبر منقوليا إلى الصين. وهكذا، فإن الغاز الروسي الذي لنْ يتم تصديره بعد الآن إلى الاتحاد الأوروبي بعد “ربط” الاتحاد بالولايات المتحدة، سيأخذ طريق الصين من خلال خط أنابيب الغاز المستقبلي “اتحاد الشرق – ايسترن يونيون”، فهل هذا يكفي ليؤكد أنّ موسكو لأجل نظام عالمي جديد تشارك في قيادته بجانب بكين مُهتمّة بتأمين “الممر الشرقي” للصين والآخر لتركيا أكثر من اهتِمامها بمواجهة الولايات المتحدة في أوروبا الغربية؟
سي أي ايه ولا شيء غيرها: لذا، في هذه المرحلة، لمْ تنتقِم بعد وكالة المخابرات المركزية لخسارتها السيطرة، تقريباً، على “الأسواق العربية”، مكتفية بتمكُّنها من “استعادة أوروبا”. وعليه، فإنّ الوكالة، على الأقل حتّى الآن، هي الرابح الأكبر من الحرب في أوكرانيا. ومن الواضح أنّ نظيرها جهاز الاستخبارات العسكرية الروسية (جي آر يو “قُرو” – GRU) سيكون الخاسر الأكبر. فآخر إعلان لوزارة الدفاع الروسية بأنّ “التركيز” على ما تطْلِق عليه “العملية العسكرية الخاصة” سيكون فقط على “التحرير الكامل لمنطقة دونباس الشرقية” مِمّا يعزِّز العمل بنظرية “كبش الفِداء” الذي سيذبحه الرئيس بوتين لتبرير “الانسِحاب المُقْنِع” من بقية أوكرانيا، مُطيحاً برؤوس قيادة (قُرو). لذلك، من الآن ولسنوات قادِمة، وفيما يتعلًق بنفوذِ “الخِدمة الذكيّة” في الاتحاد الأوروبي أو الناتو أو الدول الأوروبية المُحايدة، من المُتوقع أنْ يكون التعويل فقط على وكالة المخابرات المركزية (سي أي ايه)… لقد انتهى كل شيء، استعادت الوكالة أوروبا، والحرب في أوكرانيا يُمْكِن أنْ تتوقّف وتنسحِب القوات الروسية إلى الشرق لترتكِز في دونباس إلى أنْ يتمّ التوقيع على التسوية، ليبدأ الحديث عن مشاريع ضخمة تتعلَّق بإعادة تعمير أوكرانيا، وكل شيء بثمنه، فمَن سيدفع الثمن؟
كيف أيقظ بوتين ألمانيا وغيّرها؟ وعلى صعيدٍ آخر نشرت نفس الصحيفة الرومانية (ناتسيونال) تقريراً كتبه رادو جاكوتا، لقراءةِ الوضْعِ الجديد الذي وجدت فيه ألمانيا نفسها جراء الحرب في أوكرانيا عِلماً بأنّ الاقتصاد الألماني يعتمِد اعتِماداً كبيراً على الغاز والنفط والفحم من روسيا. ويرى الكاتب أنّ الرئيس فلاديمير بوتين ودون أنْ يقصُد أيقظ ألمانيا ودفعها نحو تغيير تاريخي لمْ تكُنْ تنْتظِره. فهل يجلس زعيم الكرملين ويتأمل نتائج ما فعله؟ وإذا بقي في السُلطة، كيف سيتعامل بوتين مُستقبلاً مع بون التي حتماً ستبدأ، وفوراً، في تحضير نفسها للتغيير التاريخي الذي دخلت فيه مُجبرة ومدفوعة، وألمانيا هي ألمانيا في السِلْمِ وفي الحرب! بصفته ضابطًاً شاباً في جهاز المخابرات السوفياتية السابق (KGB) مُتمرْكِزاً في مدينة دريسدن، كان فلاديمير بوتين يتْقِن اللغة الألمانية واستمرّ في اعتِبار نفسه خبيراً في ثقافة الدولة المُضيفة. كمْ هو مثير للسُخرية أنّ تصل أفعاله بعد عقود إلى نقطة تحوّل في التاريخ الألماني وهو تحوّل قطعاً لن يحِبّه، وعلى العالم أنْ يتعامل معه ويجْهَز له وإنْ لمْ يرحِّب به البعض واختيار الصمت حياله. عندما شنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحرب ضد أوكرانيا في الأسبوع الأخير من فبراير الماضي، كان أيضاً من ضِمن أهدافه التحوّل لنظام عالمي جديد مُتعدِّد الأقطاب، ولكن أيضاً ودون أنْ يقصُد بوتين، أدّى ما قام به لحِدوث تحوّل في السياسة الخارجية والدفاعية لألمانيا وهي أهمّ قاطِرة للاتحاد الأوربي، وهو تحوّل يسمّيه عالِم السياسة أندرياس كلوث “الثورة الألمانية”.
المسارات الخاصة – Sonderwege: بطريقة ما، كانت هذه الثورة بمثابة اضطراب تاريخي مفاجئ أكثر مِمّا قد تعتبِره الدول الأخرى أمراً طبيعياً. قد تكون بداية نهاية قرنين من المسارات الخاصة في التاريخ الألماني، وفي جزئها الأكبر أثبتت هذه المسارات أنها طُرُق مسدودة لألمانيا وأوروبا والعالم، فكيف يبقى ويستمِر الاستثناء الألماني الأخير برغم أنّه كان استثناءً جيّداً بنتائجٍ جيدةٍ. ظهرت كلمة “المسارات الخاصة – Sonderwege” لأول مرّة بين المؤرخين الألمان في القرن التاسع عشر، وقد استخدموها بدلالات إيجابية. كانت ألمانيا بطيئة في التحوّل إلى دولة قومية ولم تفعل ذلك إلّا بعد محاولة فاشِلة من قِبل الثورة الليبرالية عام 1848، والتي منعتها من اللحاق بالديمقراطية والاتجاه نحوها كما في الدول الغربية الأخرى، مثل فرنسا أو بريطانيا. ومع ذلك، فإن ألمانيا الموحّدة حديثاً، لم تكُنْ دولة أوتوقراطية “شرقية” مثل روسيا القيصرية، وبالمقابل كان قدرها ومصيرها أنْ تكون مُميّزةً – ليست غربية، ولا شرقية، ولكنها فريدة ومُتميّزة، وكانت تلك النظرية مُغرية.
تغيير المسار “بالتجارة”: بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، اندلعت الحرب الباردة وانضمّت ألمانيا الغربية إلى حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة، لكن أول مستشار من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، فيلي براندت، كانت لديه أفكار مختلفة، أصبحت معروفة باسم (السياسة الشرقية). بالنسبة لجزئها الأكبر، كان هذا يعني التقارُب والتحدُّث بلِطفٍ مع الكرملين غضّ النظر عن ردِّ فعله. كان تفكير بون يركِّز على “دعْ الأمريكيين يركزون على الردعِ العسكري”، مقابِل الفِكرة المُغرية الأخرى “Wandel durch Handel”، أي نحن الألمان سنحقِّق التغيير مع روسيا من خلال التجارة”. ذهب الكثير من أهل اليسار الألماني إلى أبعدِ من ذلك وجمعوا بين مُناهضة العسكرة والروسوفيليا. نزل الألمان إلى الشوارع ضُد نشر أسلحة نووية أمريكية على أراضيهم، ويبدو أنّ الرؤوس الحربية السوفيتية، التي كانت تستهدف بلدهم أيضاً، لمْ تزعِجهم كثيراً. بعد سقوط جدار برلين في عام 1989، أعلن المستشار هيلموت كول أنّ “ألمانيا مُحاطة بالأصدقاء والشُركاء فقط”، فهل كان ذلك استِنتاجاً مُتسرِّعاً؟ وهكذا بدأت ألمانيا في نزْعِ السلاح على مدى عقود، وتمّ تخفيض ميزانيات الجيش، وتوقّف التجنيد الإجباري. ومرّة أخرى، شَعر الألمان بأنّهم “مُميّزون”، ولكن ليس بشكل ضِمني “مُتفوقون”. شيّد المُستشار الديمقراطي الاشتراكي الثاني، جيرهارد شرودر، خط أنابيب لنقْلِ الغاز يُسمّى “نورد ستريم” من روسيا وتحت بحر البلطيق إلى ألمانيا، متجاوزاً أوكرانيا وبولندا وبقية أوروبا الشرقية. بعد فترة وجيزة من تَرْكِ منصبه، أصبح رئيس مجلس الإدارة وعُنْصُر ضغط (لوبيست) وعضو بارز في مجلس إدارة شركة غازبروم الروسية. حذّر الحلفاء ألمانيا من أنّها ستصبح مُدْمِنة لغاز بوتين ومُعتمِدة عليه. المُستشارة الأخرى، أنجيلا ميركل، مسيحية ديمقراطية، أضافت خطّاً ثانياً، نورد ستريم 2، بجوار الأول، أي صنعت “مسارات خاصة – Sonderwege” جديدة.
نهاية الأوهام: وبفضْلِ بوتين، ولًت واختفت الآن كل هذه المسارات والارتبِاطات. ومِثل الآخرين، يعترِف الألمان أخيراً بما هو واضح الآن، أي بوجود تهديدات وأعداء حقيقيون، بعضهم لا يُمْكِن إيقافه إلّا بالقوّةِ أو الردعِ. يوماً بعد الآخر أصبحت تختفي المُحرّمات القديمة للمسارات الخاصة. المستشار أولاف شولتز، وهو ديمقراطي اشتراكي مثل فيلي براندت وجيرهارد شرود، يضخ 100 مليار يورو في قطاع الدفاع. ألمانيا ستشتري طائرات F-35 أمريكية، وتم تعليق العمل في خط الأنابيب نورد ستريم 2. لقد تطلّب الأمر حرباً أوروبية لتحويل الثقافة السياسية الألمانية من السذاجة والسماحة “المسيانية” إلى الفِطرة السليمة. يبدو أنّه في بعض الأحيان يستغرق الخروج من المسارات الخاصة قروناً من الزمان بحساب الماضي السحيق، وعلى الأقل حوالي سبعة عقود ونيف بحسابات عصرنا الذي نعيش فيه، بأخذ ألمانيا حالة دراسية. نختِم مُذكِّرين أنّ ألمانيا أصدرت “إنذارا مبكرا” يوم الأربعاء الماضي، بسبب نقص مُحْتمل في الغاز الطبيعي بعد أنْ قالت روسيا إنها تريد أنْ تأخُذ ثمن الغاز بالروبل الروسي وهدّدت بقطعِ الإمدادات إذا لمْ يحدُث ذلك. وفي برلين قال وزير الاقتصاد الألماني روبيرت هابيك إنّ مرحلة التحذير الحالية ذات طبيعة وقائية، مُشيراً إلى أنّ الحكومة الألمانية ستفرِض رقابة إضافية على إمدادات الغاز، وطالب هابيك الشركات والمستهلكين بترشيد استخدام الغاز، وأوضح أنّ نسبة تخزين الغاز في ألمانيا تبلغ حاليا 25%، وأضاف الوزير الألماني “لا يوجد نقص في إمدادات الغاز حالياً، إلّا أنّنا يجِب أنْ نتخِذ إجراءات احترازية لنكون جاهزين لأي تصعيد روسي”. هذا وقد ازدادت المخاوف من أنْ تقطع روسيا إمدادات الغاز عن ألمانيا بعد أنْ أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “اعتِباراً من مطلع أبريل الجاري سيتمّ بيع الغازالروسي للدول “غير الصديقة” بالروبل بدلاً من الدولار أو اليورو المُتفق عليهما في عقود الإمداد”. واعتبرت برلين، وهي أكبر مستورد للغاز الروسي في أوروبا، إعلان بوتين “ابتزازاً”، وقال الوزير الألماني يوم الاثنين الماضي “الدفع بالروبل غير مقبول”، مؤكداً أنّه لا يوجد انْقِسام “وموقِف مجموعة الدول السبع واضح، ويجِب الالتزام بالعقود” حسب تصريحه. تبقّى القول، لا يزال بإمكان بوتين تدمير القارة الأوروبية بل وكل العالم بدءً بنفسه وبلاده، وإنْ لمْ يفعل ذلك عليه أنْ يدرك أنّه بطريقة ما غيّر تاريخ ألمانيا، فهل إلى الأفضل؟؛ كما أنّه دفع وحدة أوروبا والناتو معاً إلى الأمام، فهل أخطأ بوتين؟ وهل خطأ الشاطر قاتل؟ الحرب بالرصّاصِ والصواريخ والقنابِل والراجِمات قد تتوقّف، ولكن الحرب الاقتصادية بدأت، ولن تتوقّف أبداً.. فهل توقّفت بعد أنْ انهزم الاتحاد السوفيتي وتفكّك؟ بوخارست، 30 مارس 2022.