إن وجود الجبهة الثورية وهي شريك أصيل في انقلاب 25 أكتوبر 2021 ضمن صفوف “قوى الحرية والتغيير” التي تدعو باستمرار لبناء جبهة شعبية موحدة لهزيمة الانقلاب، ثم التعامل بجدية مع مباردرة مطروحة من ذات “الجبهة الثورية” للخروج من الأزمة السياسية في السودان ، وبعد ذلك اصدار بيان خائب من “الحرية والتغيير” خلاصته أن المبادرة لا علاقة لها بالمجلس السيادي الانقلابي رغم ان الشخص الذي طرحها هو الهادي إدريس العضو بالمجلس الانقلابي ،كل ذلك تلخصه مفردة واحدة: الجغمسة!!
إن البلاد في ظرف تاريخي مفصلي، وبالفعل تحتاج لجبهة موحدة ضد الانقلاب، ولكن حتى تكون هذه الجبهة ذات جدوى واحترام من الشارع ومشروعية شعبية، فإن اقل واجب من كل حزب ومن كل تحالف سياسي ان يجعل الموقف الواضح وضوح الشمس من الانقلاب هو شرط أساسي للتحالفات والعمل المشترك ، شرط غير قابل لأي مساومة.
رغم انف الجغمسة لا فرق بين اي مبادرة من الهادي إدريس ومبادرات البرهان وحميدتي ما داموا جميعا زملاء في مجلس السيادة الانقلابي .
بذات الصرامة التي عارضت بها المواقف المتطرفة ضد “قوى الحرية والتغيير” التي تريد اعدامها سياسيا، لأن ذلك غير موضوعي ولا يخدم المصلحة الوطنية العليا، اعارض “الجغمسة” التي تمارسها “الحرية والتغيير” وكيلها بمكيالين في قضية مفصلية كالموقف من الانقلاب! لا يعقل ان تفصل “الحرية والتغيير” حيدر الصافي ويوسف زين العابدين بسبب موالاة الانقلاب ثم تتدارس مبادرات “الجبهة الثورية” وتغالط المنطق تحت ذريعة اتفاق جوبا للسلام، ويكون السيد ياسر عرمان – مع كامل الاحترام لنضالاته- ضمن طاقمها القيادي دون أن يستقيل من الحركة الشعبية التي رئيسها مالك عقار عضو في المجلس الانقلابي!
يجب أن تعلم ” الحرية والتغيير ” ان اتفاق جوبا من وجهة نظر الشارع الثوري والجماهير العريضة جريمة مكتملة الأركان، وهو منبوذ حتى وسط جماهير الأقاليم المهمشة التي وقع الاتفاق باسمها زورا وبهتانا، فهذه الجماهير منخرطة في الحراك الثوري وتقدم التضحيات، فتخرج غبيش بجنوب كردفان والفاشر والجنينة بدارفور والدمازين بجنوب النيل الأزرق إلى الشوارع مبكرا قبل الخرطوم في اشارة تاريخية لكل سماسرة الحرب ولورداتها ، وبالتالي فإن تبرير المعاملة الخاصة للجبهة الثورية بحكاية الحفاظ على سلام جوبا هي عذر أقبح من الذنب! لان اتفاق جوبا نفسه مؤامرة انقلابية مكشوفة ومفضوحة! فالجميع يعلم أن حركات دارفور الموقعة على سلام جوبا(حركة تحرير السودان بقيادة ومناوي وحركة العدل والمساواة بقيادة جبريل ابراهيم والفصائل المنشقة عنهما) انهزمت عسكريا منذ عهد البشير على يد حميدتي ، ،ولذلك حرص الثنائي الانقلابي (البرهان وحميدتي) كل الحرص على نفض الغبار عن هذه الحركات المهزومة عسكريا والمتراجعة سياسيا واعادتها إلى المشهد كشريك سياسي اصيل حتى تكون ” وديعة سياسية تحت الطلب” للانقلاب وقد كان! أما الحركة الشعبية بقيادة مالك عقار فهي أيضا محدودة من حيث الثقل السياسي والعسكري، وقائدها مالك عقار رجل تسويات ومناصب، ولولا حماقة نظام البشير وفرضه للحرب فرضا في جنوب النيل الأزرق عام ٢٠١١ كان يمكن أن يظل مالك عقار واليا للنيل الازرق حتى سقوط البشير .
إن المبادرة المطروحة من “الجبهة الثورية” فضلا عن انها باطلة شكلا لأنها صادرة عن “شريك انقلابي” فهي باطلة مضمونا لأنها تهدف لتحصين اتفاق سلام جوبا المشؤوم من اي تعديل وتحويله الى احد الثوابت الوطنية! رغم تهافت هذا الاتفاق والألغام التي زرعها في الساحة السياسية ممثلة في مسارات الشمال والوسط والشرق، فضلا عن استناده الى فرضية خاطئة تماما وهي ان قيادات مهزومة عسكريا وضعيفة سياسيا مثل مني اركو مناوي وجبريل ابراهيم والطاهر حجر والهادي إدريس ومالك عقار لها الحق في تمثيل دارفور وجنوب النيل الازرق في حين ان الجماهير في هذين الإقليمين لا تعترف بذلك وترى في الاتفاق التفافا على قضاياها، تأتي مبادرة الجبهة الثورية وبكامل الأنانية وفقدان الحساسية للرأي العام وتقول في مبادرتها يمكن فتح الوثيقة الدستورية للتعديل مع عدم المساس باتفاق جوبا للسلام!!
هذا معناه ان “الجبهة الثورية” اسما و “الانتهازية” فعلا لم تشعر حتى الآن بوخز ضمير يدفعها لتقديم اي تنازل لاسترضاء الرأي العام الذي يبدو انها لا تحس بوجوده اطلاقا، وتعيش في قوقعة اسمها اتفاق جوبا للسلام، وليس لديها أدني استعداد للخروج منها لأنها ببساطة غير مؤهلة لتحقيق اي مكسب سياسي خارج هذا الاتفاق الكارثي الذي هندسه العسكر على مقاس مشروعهم الانقلابي في غفلة من رئيس الوزراء المستقيل عبد الله حمدوك الذي لم يخبرنا حتى الان لماذا تنازل عن ملف السلام لمجلس السيادة الذي يهيمن عليه العسكر وهو من صميم اختصاصات مجلس الوزراء بنص الوثيقة الدستورية، وفي غفلة كذلك من الحاضنة السياسية ممثلة في “قوى الحرية والتغيير” التي تتحمل جزء كبيرا من المسؤولية عن جريمة اتفاق جوبا للسلام.
ان ملف السلام من الإخفاقات الكبرى لحكومة عبد الله حمدوك وحاضنته السياسية، وهذه الخلاصة ليست وليدة التداعيات التي أعقبت انقلاب 25 اكتوبر، بل هي قراءة موضوعية لحقائق الواقع لا تحتاج لذكاء خارق او كشف للحجب! وفيما يلي نص منشور على صفحتي بموقع فيسبوك بتاريخ 16 اكتوبر 2020 :
“السلام هو الحالة الطبيعية التي كان يعيش فيها المواطنون قبل ان تقرر نخبة سياسية الحرب كوسيلة لتحقيق المطالب السياسية والاقتصادية والثقافية للأقاليم المهمشة، وبعد ان تدور رحى الحرب وتطحن مئات الآلاف من البشر قتلا وتعذيبا وتشريدا يأتي لوردات الحرب لا لتحقيق مطالب الهامش في التنمية والعدالة والحرية بل يأتون لاقتسام السلطة والثروة مع نخب الخرطوم التي يشبهونها وتشبههم في كل الرذائل السياسية! اي ان ثمن وقف الحرب هو فاتورة تسددها الخزينة العامة في حساب أفراد محتالين ومستهبلين لا في حساب الفقراء والمهمشين الذين اندلعت الحرب باسمهم وهم من سددوا فواتيرها الباهظة! وبعد كل ذلك يطالبنا لوردات الحرب بالتصفيق لهم وتتويجهم أبطالا لأنهم قدموا للهامش جائزة عظيمة هي السلام! ولأنهم -اي لوردات الحرب- ناس فاقدين المنطق والضمير والأخلاق يتجاهلون حقيقة ان السلام هو الحالة التي كان عليها الناس قبل ان يشعل قادة العمل المسلح حروبهم التي حولت “السلام” تلك الوضعية التي كانت متاحة بالمجان الى سلعة باهظة الثمن يشتهيها البسطاء ويلهثون خلفها ويرقصون ويزغردون كلما لاح طيفها! أليست هذه جريمة ضد الهامش وضد الإنسانية؟!
اتفاق سلام جوبا هو مشهد مكرر وسمج وممل في مسرح العبث السياسي السوداني ، سلام مع حركات ضعيفة عسكريا وسياسيا أغلبها لافتات وهمية لا وجود لها على الأرض، حركة مالك عقار لها وجود عسكري على الأرض في النيل الأزرق ولكنه محدود جدا ولا مقارنة بينه وبين الثقل العسكري لحركة الحلو، أما حركات دارفور فقد هزمت عسكريا منذ عهد المخلوع وتحولت جيوشها الى مرتزقة في ليبيا حسب تقارير الامم المتحدة، واما مسارات الشمال والوسط والشرق فهي عبارة عن مهزلة قوامها عواطلية ستكشف الايام القليلة القادمة اسباب فرضهم على هذا السلام المتهافت!
السؤال المنطقي: لماذا كل هذه المناصب السيادية والتنفيذية والتشريعية ولماذا تعديل الوثيقة الدستورية بطريقة غير دستورية ولماذا كل هذا الدلال السياسي لما يسمى بالجبهة الثورية لدرجة استثنائها من نص دستوري يحرم المشاركين في مؤسسات الفترة الانتقالية من الترشح في الانتخابات المقبلة؟
الاجابة هي باختصار ان الجبهة الثورية وجيوشها الجرارة من العواطلية سيصبحون “وديعة سياسية تحت الطلب” للمكون العسكري في السلطة الانتقالية وهذا هو سبب منحهم تمثيلا كبيرا لا يتناسب مع وزنهم المتواضع جدا سياسيا وعسكريا.” انتهى نص المنشور.
إن موقف “الحرية والتغيير” من الجبهة الثورية الآن ، مضافا إليه الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها في إدارة شراكتها مع العسكر وعلى رأسها الانقطاع عن الشارع الثوري، وعدم الشفافية في كشف ما يجري من عرقلة المكون العسكري للتقدم في الملفات التي تشكل قلب التحول الديمقراطي كقضايا الإصلاح الأمني والعسكري وإصلاح الأجهزة العدلية والعدالة الانتقالية وبسط ولاية وزارة المالية على ايرادات منظومة الصناعات الدفاعية، وهي القضايا التي كان يجب ان تكون الشغل الشاغل للحاضنة السياسية،ومن أجلها كان يجب أن تلتحم هذه الحاضنة بالشارع وتستقوي به في معارك لتحقيق اختراقات بشأنها.
كل ما تقدم افقد ” الحرية والتغيير ” أهليتها لقيادة الثورة، ولكن يجب أن تكف ” الحرية والتغيير ” عن الأفعال التي تفقدها أهليتها للعضوية الكاملة والفاعلة في ” الكتلة التاريخية لهزيمة الانقلاب واستعادة المسار الانتقالي المدني الديمقراطي ” ومن أهم شروط هذه الأهلية في السياق السوداني الراهن هو عزل العناصر الانقلابية وعدم السماح باي استثناءات في ذلك: ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ انقلاب عسكري كامل الدسم وكل من عمل معه أو انتمى لمؤسساته انقلابي لا مكان له في صف جبهة مقاومة الانقلاب الا بأن يتقدم باستقالة مسببة من المؤسسات الانقلابية او من حزبه المشارك في هذه المؤسسات.
لا بد من ان تجتهد كل القوى السياسية الراغبة في هزيمة الانقلاب في كسب ثقة الجماهير وهذا لن يتحقق الا بالاتساق السياسي واستبعاد العقل التبريري واعذاره التي تكون في الغالب أقبح من الذنوب.
ختاما، لا بد من تحية مستحقة لقيادات “الحرية والتغيير” المعتقلة في سجون الانقلابيين، ففي قلب الموقف الناقد لأداء هذا التحالف والكشف عن العيوب الهيكلية التي عرقلت وما زالت تعرقل فاعليته السياسية لا بد من رؤية النصف المملوء من الإناء، وهو ان من بين قيادات “الحرية والتغيير” من تصدى للمشروع الانقلابي وفتح الملفات التي تشكل للعسكرخطوطا حمراء مثل عائدات منظومة الصناعات الدفاعية وصادرات الذهب وملف ازالة التمكين، فرغم كل الترهل التنظيمي والاختراقات المخابراتية داخليا وخارجيا ومواطن الضعف، هناك مواطن قوة وعناصر وطنية وذات تاريخ نضالي مشهود ومواقف منحازة للتحول الديمقراطي في صفوف”قوى الحرية والتغيير” التي لو كانت كلها على قلب رجل واحد في التماهي مع الانقلابيين والسمع والطاعة للعسكر لما حدث الانقلاب! بداهة لو وجد الانقلابيون حاضنة سياسية خاضعة لهم وراضية بدخول بيت الطاعة في هدوء لما نفذوا انقلابهم الذي جلب لهم غضب الشارع والعزلة الدولية الخانقة والوضعية البائسة التي يقبعون فيها الان، فكان الافضل لهم استخدام هذه الحاضنة المتماهية معهم كغطاء سياسي لتصفية الثورة بدون ضوضاء.
ان الموقف النقدي الصارم من “الحرية والتغيير” ومن كل مكونات الساحة السياسية يجب ان لا يكون حكما بالإعدام على إمكانية العمل المشترك وبناء جبهة وطنية من اجل استعادة المسار الانتقالي الديمقراطي، هذا ما سأناقشه بالتفصيل في المقالة القادمة.
(نشر بصحيفة التغيير الإلكترونية