أطاحت ثورة أكتوبر 1964 بنظام الفريق إبراهيم عبود (1958-1964)، وقضت بحل المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي كان يدير شؤون البلاد، ومهدت الطريق لانتقال ديمقراطي في السودان بعد فترة انتقالية قصيرة؛ تجسَّد هدفها الأساس في الإعداد للانتخابات البرلمانية العامة. وبموجب ذلك، تشكلت حكومة جبهة الهيئات الانتقالية الأولى من القطاعات النقابية التي قادت النضال ضد الحكم العسكري، ومثَّل الحزب الشيوعي السوداني فيها بنصيب الأسد، بحكم وجوده الكثيف في أوساط النقابات المهنية والعمالية آنذاك؛ لكن حكومة جبهة الهيئات لم تدم طويلاً؛ لأنها تعرضت لضغط عالٍ من الجبهة القومية الموحدة، المكون من أحزاب الأمة، والوطني الاتحادي، وجبهة الميثاق الإسلامي. ونتيجة لهذه الضغوط السياسية استقال سر الختم الخليفة، رئيس مجلس الوزراء، في 18 فبراير 1965م، مبررًا استقالة حكومته بحرصه “على مصلحة البلاد وسلامتها، وعلى تجنيب أبنائها الشقاق والخلاف الحاد” بين الحداثيين والتقليديين. فاعتمد مجلس السيادة استقالة الخليفة بعد ثلاثة أشهر ونصف من تاريخ تشكيل حكومته الأولى، ثم كلَّفه بتشكيل حكومة ثانية من الأحزاب السياسيَّة، دون النقابات التي شكلت حكومة الثورة الأولى. إذاً من هم أعضاء مجلس السيادة الذين كانوا يمثلون المرجعية السياسية آنذاك؟ هم: الدكتور التجاني الماحي، والدكتور مبارك الفاضل شداد، والدكتور عبد الحليم محمد، والسيد إبراهيم يوسف سليمان، والسيد لويجي أدوك. وكان التيجاني الماحي أبرز هؤلاء حضوراً، بحكم تأهيله الأكاديمي، وخبراته الإقليمية والعالمية الواسعة في مجال الصحة النفسية، فضلاً عن أنه كان رئيساً دورياً لمجلس السيادة، الذي كانت رئاسته متداولةً بين أعضائه الخمسة كل شهر. وإلى جانب تأهيله الأكاديمي وخبراته العملية، شهدت فترة رئاسة التيجاني الماحي الدورية حدثين مهمين. أولهما، زيارة الملكة اليزابيث الثانية وزوجها الأمير فيليب، دوق إدنبرة، للخرطوم في 8 فبراير 1965، حيث رافقهما الدكتور التيجاني الماحي في زيارتهما والوفد المرافق لهما داخل الخرطوم، وزيارتهما القصيرة إلى مدينة الأبيض بمديرية كردفان، ومنها إلى مشروع الجزيرة، ومحالج القطن في مارنجان، وخزان سنار، وخزان الرُوصِيْرِصْ بمديرية النيل الأزرق. اتاحت هذه الزيارات الفرصة للملكة التعرف على شخصية الدكتور التيجاني الماحي، فعبرت عن “ذهولها بحصيلته الثقافية والمعرفية”. وتضاف إلى هذه الشهادة الملكية شهادة جورج بروك شيشولم (George Brock Chisholm)، طبيب علم النفس الكندي، وأول مدير لمنظمة الصحة العالمية، الذي وصف التيجاني الماحي في إحدى اجتماعات المنظمة عام 1959 عن “إفريقيا: التغيير الاجتماعي والصحة العقلية”، بأنه “طبيب نفسي مميز. لقد رأيته في مناسبات عديدة ومختلفة، وسط مجموعات متباينة من المهنيين المتخصصين في جوانب متعددة. وفي كل حالة كان دكتور التجاني الماحي مدهشًا، سواء أكان في اجتماع يناقش قضايا أفريقية، أو حتى قضايا بلاد أخرى. إن خبرته واسعة، ولكن كيف جعلها مركزة ومتعمقة في الوقت ذاته، بحيث تكون بهذا القدر من الشمول، فهذا هو الشيء الذي أدهشني. ربما يعزى ذلك إلى عقله الباحث، ودافعه الاستثنائي، واهتمامه اللامحدود بالسلوك الإنساني، وشجاعته وإخلاصه، فهي مجتمعة قد خلقت منه شخصية فريدة”. وثاني الأعمال الكبرى خارج نطاقه المهني، إنه كان وراء قرار مجلس السيادة الذي صدر في 6 أبريل 1965م مقراً “إجراء الانتخابات في الشمال لقيام الجمعية التأسيسية، وتأجيلها في المديريات الجنوبية إلى أن تقوم انتخابات تكميلية في تلك المديريات في الوقت المناسب.” وبهذا القرار السيادي تم إجراء انتخابات الجمعية التأسيسية على مرحلتين، شملت المرحلة الأولى المديريات الشمالية الست، التي أُجريت انتخاباتها في أبريل 1965م، والمرحلة الثانية المديريات الجنوبية الثلاث، التي أُجريت انتخاباتها في مارس 1967م. وكان الهدف من وراء هذا القرار انهاء الفترة الانتقالية وتمهيد الطريق لتشكيل حكومة منتخبة، تمثل تطلعات الشعب الذي قاد ثورة أكتوبر ضد النظام العسكري. إلى جانب ذلك، ترك الدكتور التيجاني الماحي مكتبةً ثريةً، تحتوي على نحو 19000 إصدارة مطبوعة، و6000 وثيقة، تتضمن خرائط قديمة ومراسلات خاصة وعامة. وبعد وفاته عام 1970، تمَّ إهداء المكتبة إلى جامعة الخرطوم، التي خصصت لها غرفة في مكتبة الجامعة الرئيسة، باسم التيجاني الماحي. وتقديراً لعطائه في مجال الطب النفسي، أسست حكومة السودان عام 1971 مستشفًى للأمراض النفسية والعصبية باسمه في مدينة أمدرمان، والذي كان ولا يزال أكبر مركزٍ للطب النفسي في العاصمة السودانية، فضلاً عن أنه استطاع أن يقدم خدمات تشخيصية وعلاجية ممتازة للأمراض النفسية والعصبية، وأن يوفر مرفقاً مهنياً لتدريب لطلبة الطب والتمريض، وعلم النفس، والمساعدين النفسيين. هكذا كان التيجاني الماحي الذي تمَّ اختياره عضواً لمجلس السيادة بعد ثورة أكتوبر 1964، ولكن النخبة السياسية والعسكرية بعد هذه التجربة الفريدة لم تحسن اختيار أعضاء مجلس السيادة؛ بحكم أن مجلس السيادة يجب أن يكون مجلساً مرجعياً، يقدم مصلحة الوطن العامة على المصالح القطاعية الضيقة. ومن المؤسف اليوم بعد ثورة ديسمبر 2018م تجد أعضاء مجلس السيادة اليوم أقل تأهيلاً من أسلافهم، والأسوأ من ذلك أنهم يتحدثون بأكثر من لسانٍ، وهم يجلسون حول طاولة واحدة، ويتمتعون بمخصصات عالية تدفع لهم من عائدات دافع الضريبة السوداني المسكين. وحديثهم بأكثر من لسانٍ يدفعني للاستشهاد بقول رئيس المجلس السيادة، الفريق عبد الفتاح البرهان، الذي برر انقلابه على الوثيقة الدستورية في 25 أكتوبر 2021 بأن “التراضي المتزن” بين طرفي الوثيقة الدستورية قد انقلب “إلى صراع بين مكونات الشراكة، قاد بلادنا ومكوناتها المختلفة إلى انقسامات تنذر بخطر وشيك، يهدد أمن الوطن، ووحدته وسلامة أرضه وشعبه”، مما استوجب على “القوات المسلحة بصفتها السلطة المؤسسة” للفترة الانتقالية، والمسؤولة من “حماية أمن وسلامة البلاد كما ورد في الوثيقة الدستورية في الفترة الانتقالية وقانون القوات المسلحة” أن تستولي على زمام الحكم في البلاد لحين تشكيل حكومة وطنية منتخبة. وفي الوقت نفسه، يصف الدكتور الهادي إدريس، عضو المجلس السيادي، رئيس الجبهة الثورية، إن ما حدث في 25 أكتوبر 2021، باستيلاء “الجيش على السلطة”، قد أسهم في توفير “كل أركان الدولة الفاشلة” في السودان، وأدت القرارات التي أصدرها رئيس مجلس السيادة “إلى تقويض كل مكتسبات الثورة، خاصة تدفق العون الأجنبي، ومسيرة اعفاء الديون، وإزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.” وليس لديه “مانع في التدخل الأممي” لإيقاف نزيف الدم في دارفور، كما يصف الأزمة الراهنة بأنها “أزمة دستورية بامتياز”، جعلت “البلاد تعيش فراغًا دستوريًا”، وأوصلتها إلى “وضع مزري”. بناءً على ذلك، يرى إدريس أن مبادرة الجبهة الثورية يمكن أن تحل الأزمة عبر مرحلتين: الأولى استعادة مسار التحول الديمقراطي والشراكة التي كانت موجودة بين أطراف الحكم الثلاثة [المكون العسكري، والحرية والتغيير، وأطراف اتفاق جوبا]، لإعادة النظر في الوثيقة الدستورية وهياكل الحكم؛ والثانية أن تشارك كل القوى السياسية والثورية والمدنية وبصفة خاصة رجال المقاومة والشباب والنساء ما عدا المؤتمر الوطني؛ لاستكمال هياكل الدولة.” لاشك في أن مثل هذه التناقض بين هياكل السلطة الحاكمة ينذر بشرٍ مستطيرٍ، مصدره الرئيس أولئك الذين يجلسون على سدة الحكم (المجلس السيادي)، ويقدمون مصالحهم القطاعية على حساب المصلحة الوطنية العامة، فإذا بلغ الخلاف بين أطراف المجلس السيادي أنفسهم هذا المبلغ، فالأولى بهم أن يقدموا استقالاتهم للشعب السودان، كما فعل الدكتور حمدوك من قبل، إذا كان يحكمهم وازع أخلاقي، وتهمهم قضايا الوطن والمواطن! لكن المشكلة في جوهرها مشكلة رؤية وضمير، لأن شعار التغيير الذي رفعته الثورة، يجب أن يستند إلى فرضية مفادها أن تجارب السودان السابقة بكافة أشكالها الديمقراطية والعسكرية لم تفلح في إرساء دعائم نظام حكم مستدام في السودان، بل جعلت السودان يدور في فلك دائرة شريرة ومتبادلة بين الديمقراطية والعسكرية. ولذلك يجب أن تكون غاية التغيير موجهة نحو إعادة هيكلة مؤسسات الدولة الدستورية، ودورها الوظيفي في تحقيق التحول الديمقراطي. ونقطة الانطلاق على المستوى السيادي يجب أن تبدأ بإعادة هيكلية المنظومة الأمنية (القوات المسلحة، والدعم السريع، وجيوش الحركات المسلحة، وجهاز الأمن)، وعلى المستوى السياسي بالأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني. فقوات الشعب المسلحة يجب أن تربو بنفسها عن الصراع السياسي والمماحكات الحزبية، وتلتزم بدورها الوظيفي المتمثل في “حماية سيادة البلاد، وتأمين سلامة أراضيها، والمشاركة في تعميرها، والمساعدة في مواجهة الكوارث القومية.” أما الأحزاب السياسية وحركات الكفاح المسلح الموقعة على سلام جوبا فينبغي عليها أن تعيد النظر في آليات حوكمتها الداخلية، ومراجعة قواعدها التنظيمية حسب متطلبات التحول الديمقراطي المنشود، وتطلعات الشباب الثائرين الذين يتشوقون إلى غدٍ أفضل. كما يجب عليها أيضاً أن تسمو بنفسها فوق إرث الأيديولوجيات الذي لا يخدم قضايا السودان الآنية، والمحاصصات الطائفية المثقلة بإسقاطات التاريخ والطموحات الشخصية الزائفة. الآن السودان أضحى في وضع لا يحسد عليه.