شكراً للعُصبة ذوي البأس، فليست أمورها كلها شرٌ كما يظُن الناس، إذ لها من الحسنات ما لا تراه عين المتربصين أمثالنا. ومن ضمن هذه الحسنات إنها حدَّت من غلواء طباعنا الجافة، وخففت تلك الصرامة والجدية الشديدة التي نَعَتنا بها أمم وشعوب. ومن عجب أن هذا التغيير السُلوكي سمع به جيراننا في شمال الوادي، فلم يضرِبوا أخماساً في أسداسٍ، مثلما فعلنا بحثاً في تفسير الظاهرة. بل وجدوها ضربة لازب، بحكم إننا أعِدنا لهم سيرتهم التي جرت في أزمنتهم السالفة. فلخصوا الحالة السايكولوجية التي تقمصتنا بالعبارة التي سار بها الركبان، وقالوا إننا (جُعنا) أي أصابنا الجوع الكافر الذي لا يرعى ديناً ولا يؤتمن على ذمة. ولأنهم أهل طُرفة فقد ألحقوها بعبارة أدخلتنا مملكة الحيوانات بجدارة. لكن ما علينا، فمالنا ومالهم، طالما نحن جُعنا بالفعل وهم غير ملومين.
(2)
ما الذي دعانا لكل ذلك، وكاد أن ينسينا الحدث في خضم النكتة المُوجعة. الذي دعانا – يا سادة يا كرام – هو كثرة المِلَح والطرائف التي غزت وسائل اتصالنا وتواصلنا. وبغض النظر عن ما اعتور بعضها من تشوهات شائنة، فقد أوهمت الناس أننا نحب هذا الوطن حباً جماً، بل يخال للرائي أن روحنا تكاد تطلع لبارئها ونحن نلهث ولهاً في حبه. لكن الحقيقة أن ذلك ليس كذلك. فتلك طباع بداوة ما زالت تتحكم في نظرتنا للوطن وقضاياه المتشعبة، وهي ذات الطباع المشوبة بِنَفَسٍ صوفي مقتبسٌ من تلك القباب التي انتثرت في بقاع أرض السودان. لكن مما يحزن له المرء، لا هذه ولا تلك يمكن أن تبني وطناً. بدليل أنها ذات المسامات التي دخل من خلالها الأبالسة لجلودنا واستوطنوا فيها. فلماذا – يارعاك الله – هم لا يحبون هذا الوطن كما يحبه أهله؟ لماذا يتاجرون به ويتلذذون ببيعه في سوق النخاسة وهم صاغرون؟ لماذا يكذبون وينافقون باسم الدين حتى ظنَّ البعض أن العلَّة في الدين وليست فيهم؟ لماذا يصِرُّون على غسل أوساخهم فيه حتى لم يبق من درنها شيء؟ كيف حدث هذا والسنون تتساقط كما يتساقط اليأس من جُنبات المريض السقيم. استغرقتنا المسرحيات المعروضة، فكلما فرغوا من واحدة أخرجوا لنا من كواليسهم داهية أخرى. هبطوا علينا ممثلين، ورويداً رويداً أصبحوا مخرجين، ورغم السماجة والركاكة والفهلوة، بتنا لا نملك غير تلك الدهشة البلهاء ترياقاً!
(3)
كان الانقلاب نفسه هو العرض الأول لسلسلة المسرحيات الرديئة، فهل في ذلك قسم لذي حجر يعد كل هذه المرارات التي تجرعناها؟ أخفوا فيه ببراعة الحواة هويتهم الدينية، حتى حسبناها – أي الهوية – رجساً من عمل الشيطان ينبغي اجتنابه!. ثمَّ أضفوا عليها بعضاً مما انطلى على أهل السودان وزجوا فيه القوات المسلحة، باعتبارها كياناً قومياً صُمم لحماية الأرض والعِرض. وبعد أن جرت المياه تحت الجسور ادركنا أنها لا حمت أرضاً ولا صانت عرضاً. أما السيناريو الذي ابتدعه الشيخ العرَّاب وجرى مثلاً بين الناس (أذهب للقصر حاكماً وسأذهب للسجن حبيساً) فقد كان ذلك من شاكلة السيناريوهات التي عجز عباقرة ممثلي (هوليوود) عن الإتيان بمثله. وعلى مدى عقد كامل من الزمان فيما اسماه الأستاذ المحبوب عبد السلام (العشرية الأولى) فكانت تلك حقبة عُرضت فيها أفلام جمعت بين الجاسوسية والخيال العلمي والدراما بكافة أشكالها، بل ولم تغفل حتى أفلام رعاة البقر الذين يقتتلون من أجل حفنة دولارات. ثمَّ في ختام العشرية الأولى وبداية العشرية الثانية، رأى الناس كيف ذُبحت القداسة على عتبات السياسة، ثمَّ في العشرية الثالثة التي نعيش مأساتها الآن، شهد الناس كيف تسرَّبت الأخلاق كما يتسرَّب الماء من بين الأصابع!
(4)
وإن كان لابد من (فلاش باك) كما تقول مصطلحات أهل الفن السابع. كنت قد التقيت الدكتور (الشيخ) حسن الترابي قبل نحو ستة أعوام تقريباً. تمت تلك المقابلة في ظروف استثنائية، حدثت ذات يوم رمضاني قائظ الحرارة كما هو صيف أهل السودان الذي تتصدع منه الجدران. يومذاك يلفت إنتباه الداخل لدار الشيخ الكائنة في (قُم) أو المنشية السودانية، أن الميدان الواسع الذي يتمدد أمامها كان يشكو لطوب الأرض خلوه من السابلة بدوابهم الفارهة. ومن عجب كانت قبلئذٍ يندر أن تجد فيها موطئ قدم. بل زاد عجبي وأنا أـدلف لداخلها، فلم أجد سوى الدكتور (الشيخ) واثنين من جلسائه، أحدهما تاج الدين بانقا سكرتيره الخاص كما علمت لاحقاً. أما ذاك الآخر فلعله حرسٌ تنبئك بهويته بسطة جسمه. فلا غرو عندئذٍ أن جئتهم برفقة ثالث هو كمال عمر، الذي اجتهد في جعل اللقاء ممكناً بهمة لا يغلب مثلي في تفسيرها. قلت في سري يا سبحان الذي يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، وأيقنت في خويصة نفسي أن ما رأيته من مشهد ما هو إلا محض (بروفة) لقيامة (كيزان) أهل السودان، وديدني في ذلك أن الحواريين فروا من شيخهم، كما يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه!
(5)
في ذاك اللقاء مع الدكتور (الشيخ) الذي امتد لنحو ثلاث ساعات مرت كلمح البصر، لا لأن الشيخ الدكتور حديثه شيق كالعادة، ولكن لأنه كان ينحر فيها الأسرار كما كان ينحر حاتم الطائي الدواب. وللأمانة فقد أذهلتني طاقته التي لم يحد منها الصيام، بل ربما حسده عليها المفطرون. كنت خلال تلك الساعات منصتاً والرجل يُشرِّح في العصبة التي صنعتها يده، بسكين قصاب يعرف أين يكون مقتل ضحيته، وخلالها كنت ألحظ سيما وجهه يعلوها الغضب حيناً والسخرية أحياناً أخر، وبين هذا وذاك كانت تأتيني شظايا نيران الحقد والكراهية والوعيد جزافاً، حتى كدت أخشى أن تلحقني بالمغضوب عليهم. كان الدكتور الشيخ يضغط بابهامه على تلك الطاولة الصغيرة التي أمامه كلما جاءت سيرة أحدهم، لدرجة تظن أنه سيثقب الطاولة لا محال، ويزيد عليها باصطكاك أسنانه كما يزدرد الجائع الطعام. المهم أنه كان سخياً يومذاك، فقد أسمعني ما رغبت وما لم أرغب سماعه. وبين الفينة والأخرى كنت أرمق تاج الدين بانقا الذي يجلس على مبعدة منَّا، فأراه وقد أرهف السمع كأنه قد جعل من جسده كله آذاناً صاغية. أما كمال عمر الذي كان يجلس على مقربة من يساري، فقد كان يغالب نعاساً، تحتار في تفسيره، هل هو من أثر الصيام، أم من حديث ملَّ سماعه!
(6)
على الرغم من مرور أكثر من عقدٍ على ما سماه الإسلاميون (المفاصلة) لم أكن متيقناً حتى ذاك اللقاء من أنها حقيقة تُذكر. ولكن عندما غادرت دار الشيخ الدكتور أدركت تماماً – بعد الذي سمعت ورأيت وأيقنت – اًنها لم تكن مسرحية كما اعتقد البعض وأنا منهم، فقد كانت بالنسبة للشيخ الدكتور حرب تكسير العظام، لاسيَّما، فقد اختطف الحواريون منه مشروعاً نذر له عمره بغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق حوله. على كلٍ تذكرت كل هذه الوقائع بما فيها تعابير وجه الترابي – التي لن أنساها ما حييت – بتمددها وانكماشها، تذكرتها الآن وأنا أتابع عرضاً جديداً لمسرحية قديمة في أدوار جديدة. تلك التي عَرضت فصولها قناة الجزيرة الفضائية، وبطلها هذه المرة الدكتور علي الحاج أو (اسبارتوكس) المؤتمر الشعبي، بغية أن يعيد سيرة صنوه الروماني إن لم يكن مصيره كمصيره!
(7)
في اللقاء المذكور الذي جرى نحو أقل من أسبوعين، لفت انتباهي ترديد اسبارتكوس السوداني لكلمة الحرية لنحو أربع وعشرين مرةً، حتى يكاد المشاهد يشك أنه يود أن يُكفِّر بها سيئات ذنوب يصعُب غفرانها، بل في كذبة بلقاء ادَّعى في اللقاء أنه ترك السودان لمدة سبعة عشر عاماً بسبب انعدام الحريات. ذلك قول تقول فيه العرب العاربة، بخ بخ. ولكن الحقيقة ليس اسبارتوكس السوداني وحده، فالملاحظ أن (الشعبويين) على قلب رجل واحد، باتت تلهج ألسنتهم بهذه الكلمة السحرية التي ذبحوها قبل نحو ثلاث عقود زمنية من الوريد إلى الوريد. أليس يا صاحٍ، إن هذه العصبة بجناحيها هي من استباحت حرمات الشعب السوداني الواحدة تلو الأخرى حتى قضوا عليها جميعاً؟ أين كانت تلك الحرية وهم يزجون حتى من لم ينبس ببنت شفة في تلك البيوت سيئة السمعة؟ أين كانت الحرية وهم يلحقون بمعارضيهم صنوف الأذى والعذاب والتنكيل ويزهقون الروح فيها تلو الأخرى؟ أين كانت الحرية وهم يجزون رقاب شباب غض بدم بارد؟ أين كانت تلك الحرية وهم يوئدون أرواح ثمانية وعشرين عسكرياً ويقبرونهم قبل أن تخرج روحهم إلى بارئها؟ أين كانت الحرية يوم أن أصبح بعد ذاك الدم السوداني أرخص من ماء النيل الذي يجري مدراراً؟ أين كانت الحرية يوم أن كانت جحافل المفصولين تعسفياً تهيم على وجوهها مكسورة الخاطر ومنزوعة الكرامة؟ أين كانت تلك الحرية وأفواه الشعب الصابر مكممة لا تستطيع النطق بفساد لم يعرف السودانيون له مثيلاً منذ أن أوجدهم الله على تلك الأرض؟ فهل الحرية المفترى عليها يومذاك لا تشبه الحرية المرغوبة يومئذ؟
(8)
إن كنت يا عزيزي القارئ من محبي التراجيكوميديا- فتأمل دون أن تضحك – أن حامل لواء الحريات هذا، التقى المشير ساكن قصر غردون يوم 18/4/2017 وبعد أربعة أيام أصدر بياناً وتحديداً يوم 22/4/2017 قال فيه إنهم استعرضوا كل قضايا هذا البلد التعيس، وبلا عجب لم تكن الحرية التي نطق بها كفراً، وتغزل في معانيها جهراً، مفردة من مفردات ذلك البيان. وفي واقع الأمر سواء نطق بها أم صمت فذلك مما لا يعنينا في كثير شيءـ، طالما أن منهجنا الصمدي الذي لا نحيد عنه يقول إن ما بني على باطل فهو باطل بالضرورة. فهذا النظام استغل سلوكنا المتسامح وعبث به حد الإهانة، وها هم سدنته القدامى يعملون مع سدنته الجدد على إعادة إنتاج أزمة عشنا مأساتها ألماً ودماً ودموعاً!
(9)
فيا سادة يا كرام، لعل أسوأ ما تنضح به ألسنة العصبة ليس تلك الأفعال وإن عظمت، وإنما استخفافهم بالناس وعقولهم، فهم يؤمنون أن الخلق مجرد رعايا يُساقون كيفما أتفق، يظنون أنهم يستطيعون خداعهم كل الوقت، ويعتقدون أن بمقدرورهم أن يفعلوا فيهم أي شيء دون أن تنطق ألسنتهم بما يشعرون، ثم في خاتمة ترهاتهم ادَّعوا أنهم الأعلون درجة وبقية خلق الله ما وجدت إلا للسمع والطاعة. أليس علي الحاج نفسه أحد الستة العظام الذين ذكرناهم في كتابنا المعنون (سقوط الأقنعة/ 2006) وسابعهم الشيخ الراحل الذي اختارهم لتدبير وتنفيذ الانقلاب المشئوم. أي الانقلاب الذي أجهض ذات الحرية التي يتباكون عليها اليوم. ما هذا الاستخفاف بالعقول والضحك على (الدقون) وقد بلغنا من المحنة ثلاتين عاماً حسوماً؟
(10)
يعرضون المسرحية تلو المسرحية دون إحساس بأن المشاهدين ملَّوا مشاهدة تلك الفهلوة، وأنهم – أي الجمهور- حينما صمتوا ليس جراء خوف اعتراهم أو تردد غصبهم، أو خنوع تلبسهم، ولكن لأن التجربة أثبتت أن هذا الشعب يُمهل ولا يَهمل، فالغضب الهادر آتٍ حتى لو تطاولت السنين، والغضب الساطع آتٍ حتى لو كانوا في بروج مشيدة. والغضب الصادق آت ولو كره الظالمون!
فيا اسبارتوكس الإسلامويين تلك بضاعة بائرة لن تجد من يشتريها!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية ولو طال السفر!
faldaw@hotmail.com