كل يوم يمر على انقلاب ٢٥ أكتوبر يزدادفيه الناس اقتناعاً بأهمية العمل على إسقاطه تفادياً لمخاطر استفحاله وتحوله إلى بعبع مخيف يستعصي التعاطي معه. إن محاولة فهم طبيعة الانقلاب وشكل التحالفات القائمة حالياً والكامنة مستقبلاً بين ثنايا أطرافه الرئيسية، الظاهر منها للعين والمستخفي بعيداً عن الأنظار، تمثل جهداً ملحاً يجب على الشعب السوداني بذله بكلما عهد فيه من مهارة في التحليل. وفي هذه العجالة، سوف استعرض بشكل موجز طبيعة التحالفات الرامية إلى تثبيت الانقلاب والسيناريوهات المحتملة لتلك التحالفات، وبالتالي يمكننا التوصل إلى أنجع السبل لمناهضة الانقلاب وإسقاطه.
بادئ ذي بدء، لا بد لي من الإشارة، والإشادة معاً، بالدور التنويري المؤثر للمفكر الحاج وراق، الذييتعمق في القضايا تعمقاً فلسفياً ليستخلص منها نتائج نظرية على قدر لا يخفى من الأصالة.ففي بث مباشرله يوم أمس الأول، ١٨ يونيو ٢٠٢٢م، أوضح ضرورة أن تتبنى قوى الثورة الحية استراتيجية موحدة وتكتيكات عديدة، بحيث تنطوي الاستراتيجية على إسقاط الانقلاب وإنجاح الانتقال ومن ثم استدامة الديمقراطية. بينما تتعدد سبل التكتيكات بين تفاوض، مثلما قامت به قوى الحرية والتغيير، وحراك شعبي متنامٍ، مثلما تفعل لجان المقاومة ومثلما تستنفر بعض الأحزاب عضويتها في هذا الاتجاه.
اعتقد أن محاور تلك المحاضرة الثرة ينبغي تحويلها إلى مسودة وثيقة تعكف كل قوى الثورة على دراستها، وتعديل ما تراه حرياً بالتعديل وإضافة ما يجب إضافته، وصولاً إلى وثيقة ينعقد عليها الإجماع وتستهدي بها الثورة في مقاومة هذا الانقلاب واسقاطه في خاتمة المطاف.
من ناحية أخرى، ورغم التناقض الظاهري، فإن غياب القيادة الموحدة والشخصيات الكاريزمية على قمة الحراك الثوري يعتبر أحد أبرز سمات ثورة ديسمبر. تلك أذن نعمة في صورة نقمة. وفيما مضىكان سهلاً على الأنظمة المستبدة قمع أي حراك باعتقال قادته الأكثر تأثيراً. لكن هذه المرة لم يجد العسكر رأساً أو رؤوساً مدبرة يعتقلوها. فمثلاً، عقب اعتقال أعضاء لجنة إزالة التمكين وكبار القيادات الحزبية، تواصلت المظاهرات بوتيرة ثابتة نسبياً. وضربالانقلابيونأخماساً في أسداس عندما لم يتمكنوا من تحديد قيادة موحدة للجان المقاومة. وتلك من العبقريات العفوية ــ إن جاز التعبير ـ لهذا الشعب البسيط الغلبان!! وهي عبقرية تشبه كثيراً آلية عمل الإنترنت حيث تنعدم القيادة المركزية الواحدة.
إن هذا الانقلاب يمثل مصالح طبقة طفيلية من الإسلامويين، والتي ولدت في عهد الإنقاذ المشئوم واشتد ساعدها بتسخير مقدرات الدولة جميعها لخدمة هذه المصالح في أبشع صور التمكين وأكثرها جرأة ووقاحة على امتداد تاريخ السودان. وترتبط هذه المصالح بعضها بعضاً بروابط وثيقة قوامها الشركات التابعة للعسكر والأجهزة الأمنية بما فيها قوات الدعم السريع. ويبلغ عدد هذه الشركات نحو ٢٥٠ شركة، وذلك بحسب اتفاق ١٧ يناير ٢٠٢١م، القاضي بنقل ملكية ٢٠٠ شركة تابعة للمؤسسة العسكرية إلى حيازة وزارات الدولة، علماً بأن الاتفاق أغفل عمداً ٥٠ شركة أخرى تتبع لقوات الدعم السريع. وتستحوذ هذه الشركات مجتمعةً على نحو ٨٢٪ من حجم الاقتصاد الكلي، حسب ما قاله عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء السابق. وهذه الشركات، والجهات العاملة معها، تهيمن على كافة أعمال التعدين ذات الحجم الضخم، وخاصة تعدين الذهب وتصديره وتدوير بعض عائداته في استيراد لا شأن له بالتنمية ولا بسلامة اقتصاد البلد، ناهيك عن المسغبة التي يعاني منها الشعب.
إذن الشكل المبدئي للتحالف الطفيلي من المرجح أن يضم قيادات الجيش والدعم السريع مع علاقات واضحة بأطراف اتفاق جوبا للسلام، وعلاقات خفية مع قيادات الإخوان المسلمين. من شأن هذا التحالف أن يعيد الإنقاذ إعادة فعالة لكن بدون هالة إعلامية،مع المحافظة على بعض المواضعات السياسية المطلوبة لتحقيق سلاسة في العلاقات الإقليمية ذات الثقل في المنطقة. ذلك هو السيناريو الأول المحتمل.
وفي السيناريو الثاني يهيمن العسكر، وتحديداً القوات المسلحة على المشهد السياسي، مع استمالة أطراف اتفاقية جوبا واقصاء الدعم السريع وجماعة الإخوان، بشكل تدريجي. هذا الوضع يستجيب للشعور السائد في أوساط ضباط القوات المسلحة من ريبة عند النظر إلى المكانة الرفيعة التي تبوأهاقادة الدعم السريع، والثراء الفاحش الذي ينعم به جنوده ناهيك عن ضباطه. بالطبع هذا المشهد المتوقع ينطوي على احتمال أن تنجر البلاد إلى حرب أهلية يكون ميدانها قلب المدن الرئيسية هذه المرة، خلافاً لكل الحروب السابقة إذ كانت مسارح القتال في الغابة أو بعيداً في الأطراف.
أماالسيناريو الثالثفيتمثل في تولي الدعم السريع زمام الأمور والقيام بتشكيل تحالفات تمكنه من الاستئثار بالسلطةتمهيداً لقيام ما يمكن تسميته «مملكة آل دقلو». بذلك يتم تكرار فصل من أسوأ فصول تاريخ السودان إبان السنوات الأخيرة من الدولة المهدية، عندما استفحل النزاع القبلي ونشب ذلك النزاع السمج بين أهل الغرب وأهل البحر، وانتهى الأمر بمجاعة سنة ستة المعروفة، إذ قال القائد العسكري الزاكي طمبل للخليفة: «إن الجيش… قد تزايد به الضرر من جهة المعايش. وعمّ ذلك الكافة صغيراً وكبيراً مجاهداً وعائلة حتى صاروا يأكلون الجيف ويلتقطون الحبوب من الأرض.» ومن أوضح المؤشرات على ذلك ما قام به حميدتي مؤخراً من دغدغة لمشاعر الإدارة الأهلية وزعماء القبائل ورجال الطرق الصوفية.
هذه السيناريوهات الثلاثة تقوم على استغلال موارد البلد لمصلحة فئة تجد أنها هيالأجدر بالحكم والأقدر على إدارة دفة السودان من خلال إرساء دعائم علاقات إقليمية مناسبة تكسبها الشرعية شيئاً بعد شيء. وسيؤدي ذلك إلى إفقار الشعب وتفاقم معاناته، على المديين القريب والبعيد. ولا أظن أن عاقلاً سيجد أفضل من المثال السيء الذي ضربته الإنقاذ خلال ثلاثين سنة من حكمها، وهو حكم أدخل ٩٠ في المائة من شعب السودان إلىدائرة الفقر بمختلف مستوياتهمع غياب تام للرعاية الصحية وتدني في مستوى التعليم وانتفاء المجانية منهفضلاً عن الانفلاتالأمني الواضح وزعزعة أركان الحياة الاجتماعية المعهودة للناس في تاريخهم القريب.
وفيما يتعلق بالآلية الأكثر نجاعة لإسقاط الانقلاب، وبناء على التجارب المكتسبة من مقاومة الإنقاذ، ربما يكون تصعيد الحراك الثوري هو الوسيلة الوحيدة التي يحسب لها العسكر ومن شايعهم ألف حساب. ولن يشتد عضد هذا الحراك بدون دعم لجان المقاومة ورفدها بخبرات الأحزاب المعارضة وتوفير المناخ الملائم لها لصياغة برنامج بسيط ومحدد المعالم يستطيع أن يهز أركان النظام الانقلابي هزاً يضعضع بنيانه. لحسن الحظ، فإن الظروف الموضوعية لنجاح الحراك الثوري ما زالت باقية، بل يزيد الوضع الاقتصادي تأزماً وهو الركن الأساسي في الظرف الموضوعي للثورة.وقد يكون مفيداً جداً تنويع أساليب المقاومة، من مظاهرات ليلية وأخرى نهارية، إلى تتريس شوارع واعتصامات في مواقع رمزية معينة وصولاً في النهاية إلى العصيان المدني الشامل.