مقال فضيلي جماع “كفى احتقار الذات… ” بتاريخ 28 يونيو 2022م هو في ذاته هوية متحركة نحو الهدف، حيث تناول فيه تصنيف المملكة لحجاج السودان ضمن الحجيج غير العرب مما فتح تساؤلات كثيرة عن ماهية السودان في الاساس. فبدأ مقاله ليس مستنكراً ذلك بل أضاف تأكيدات أخرى تؤيد ذلك ، نعم إن الاعتراف بواقعنا الاصيل هو المخرج. رسمياً فإن لغتنا هي العربية ولن ننسلخ من لغة القرآن لنستبدلها بالانجليزية أو الفرنسية أو غيرها ، وما أصعب أن نجتمع على لغة سودانية محلية واحدة ، إذن فالعربية لا بديل لها. فليوصفنا الآخرين بأننا غيرعرب وإن تحدثنا العربية بافصح من أهلها. وعلينا أن نقبل هذا التصنيف (غير عرب) وقد سمعناه كثيراً من بعض العرب ، رغم أن بعض قاماتنا من علمائنا كان يدرّسهم أصول اللغة العربية. نقبله برضا وتصالح مع نفسنا، لأنها الحقيقة، ولآن معيار العروبة هو اللون والسحنة التي نحن نقف على مسافة منها. ولذلك لابد أن نحترم ذاتنا وتنوع تفاصيلها كوشي / نيلي/ نوبي /نوباوي / فوراوي / مسلاتي /عربي أو بعض عروبي.
وبحثاً عن هويتنا فإن الفكرة قديمة دعا لها يوما ما الشاعر الرائع د. محمد عبدالحي له الرحمة “بالعودة الى سنار” والذي كان يعني التأصيل. وزاد عليها البعض مطالباً بتغيير حتى اسم السودان الي سنار، ربما خجلاً من السواد. ورؤية أخرى قالت ” بالغابة والصحراء ” ومن رواد هذه الدعوة الراحل الاديب /النور عثمان أبكر والشاعر /محمد المكي ابراهيم إبن كردفان أطال الله عمره صاحب قصيدة :
بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت ..
يا خلاسية يا مملوؤة الساقين اطفالاً..
يا بعض زنجية يا بعض عربية ..
وما في معناه. قمة الابداع في التوصيف اليس كذلك؟ ومما أعرفه عن تاريخ سلطنة سنار، فإني لا اؤيد الدعوة الى سنار. لأن قيام هذه السلطنة اصلاً كان نتاج إنقلاب على واقع أصيل رغم سوء إدارته لدولته في ذلك العصر والتفريط. تلك لعنة أهل السودان عبر التاريخ وقبلها قامت دولة المقرة فباعت مواطنها عبدا في اتفاقية ” البقط ” ، فظل جيراننا في شمال الوادي ينعتوننا بهذه العبودية الى اليوم أنها مصيبة وغفلات حكامنا عبر التاريخ . كما أن سنار لم تأتي بالافضل حيث استمر صراعها الدموي الداخلي والخارجي مع الجيران.. الم ترسل ابولكيلك بجيش الهمج الى كردفان للقضاء على سلطنة المسبعات وعاث فيها فساداً. الم تطال غارات سنار ارض السافل في الحلفايه وشندى وما تلاها شمالاً.. الم يقود ملكها بادي ابودقن بنفسه حملة تأديبية على سلطنة تقلي التي كانت تحمل ذات الدماء الملكية لملوك سنار انتقاما لصديق عومل بسوء وعبر فيها الملك الهمام بشقاء ورهق ” باجة ام لماع ” الوعرة والتي قالها عنها ملك تقلي عندما بلغه تحرك حملة الغزو.. “إذا تمكن ملك سنار من عبورها الى تقلي فليفعل ما يشاء “. نعم تقلي قد تحصنت ولم تستسلم مهزومة بل دافعت ببسالة عن سيادتها وانتهى الامر بإتفاق مع ملك سنار لا نصر فيه ولا هزيمة. ومن عجائب ما ذكر أن التقلاوين ظلوا يقاتلون الملك الغازي نهاراً لشهور وفي الليل يرسلون له وجنوده الطعام والمؤن بكرم فياض لم يختص بهذه الخصلة إلا أهل السودان رغم حالة العداء والحرب ، فهذا ما وثقه التاريخ . وفي نهاية الامر تراضيا على سلام كسبي مشروط من الغازي فرجع ومعه بعض السبايا ولكن تحصنت أيضاً سيادة تقلي. فكان الاتفاق والتصالح بلا خضوع أو ذلة وهذا موقف عرف به ملوك تقلي منذ القدم. فليست لهم عقدة تجاه العروبة التي تتناصف دمائهم وثقافتهم في قبول الآخر والتقوّي به لصالح الاستقرار، إنه ديدن الحكمة الذي بقيت في احفادهم حتى اليوم .
عدم قناعتي بدعوة العودة الى سنار يستند الى أنه يمكن ان يوازيها دعوة بالعودة الى دارفور والمساليت أو كوش أونبتة وكرمة أو بجا الشرق وفي ذلك يعني التمزق والشتات. لكن أجد نفسي في شعار “الغابة والصحراء” بعد أن أضيف اليهما “الجبل والسهل والنهر” لكونها مجتمعة رمزية فيها كل السودان وستأتي لنا بكل اطرافه طائعين لبناء الثقة من جديد إذا صدقت الدعوة والارادة وذلك عمل شاق لكن لابد منه.
في مقال للمهندس على دقاش استدعى فيه إجتهاد الكاتب الهندي الاصل البريطاني الجنسية أمارتيا سين في كتابه ” الهوية والعنف وهم القدر ” الذي يدعو أن لا يسجن الانسان نفسه في هوية آحادية. حيث يقوم جوهرالفكرة في رفض الاقصاء وتعزيز التعددية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وتبادل الاحترام. وفي ذلك حاول المهندس على دقاش معالجة الصراعات القبلية في جنوب كردفان والدفع نحو القبول المتبادل مع الاخر، لاناس عاشوا متحالفين في سلام لمئات السنين حتى غابت عنهم الحكمة اليوم، فتقدمهم المتطرفين بلا فهم ليكون الصراع بين ” القرون والجرون” ونوباوي وغير نوباوي على موراد تكفينا وحتى من يتعشم فينا من خارج الحدود.
إن مفهوم التعايش وفق الهوية الواقعية كنا نأمل أن تتبناه الحركة الشعبية لكنها تغالت حتى فصلت بين حاضنتها الاجتماعية المواطن البسيط لتقول عبثاً هذا زنجي أصيل وذاك عربي وافد أو حسب مهنته ، وأرض محررة وتلك تحت التحرير. بل اليوم نحن أمام تجربة قاسية تتعلق بأسر فريق صحي من خمسة افراد ( إمرأتين وثلاثة رجال ) خرج من ابوكرشولا ج كردفان للقرى لاجراء تطعيمات صحية فاسرتهم الحركة بحجة دخولهم الاراضي المحررة بدو أذن منذ 9/ مارس 2022م حتى اليوم تاريخ كتابة هذا المقال رغم كل المحاولات الشعبية والاممية مع القائد فاروق المتعصب لاعتقالهم مزيداً من الايام.
قناعتي ستظل باقية أنه سيعز علي الحركة الشعبية الوصول الى الحل المقبول إذا حاولت تعزيز مكانتها بخطاب الاثنية المسنود بفكر اليسار المتنافض مع الواقع وستكون بذرة الفناء لكل توجه في التصنيف أنت أصيل وذلك وافد ، وإن الحل في توطين الحلول أخذاً من تاريخ الواقع الاجتماعي الفعلي.لأن هذا الوطن السودان كله نتاج حراك من أطرافه في الجيرة الى وسطه و لا نعلم اصيلا الا اجتهادا ضعيفا في الشمال القصي وبعض الجيوب في الغرب والشرق. فهل لنا أن نبتعد عن اصيل ووافد؟ انها منتنه، وطالما أن مبدأ المواطنة والعدل والمساواة والمسنود بالقانون والعرف السائد تاريخياً ممكناً.
اثار فيّ كل هذه الشجون مقال المبدع فضيلي جماع ذلك المتصالح مع نفسه والذي يدعو الى اعادة تعريف هوية السودان وإحترام الذات واضيف اليه بدون شطط .. وذاك هو ايضاً نداء ثورة ديسمبر المجيدة المستعرة نارها ويقودها الشباب ويقدم فيها كل يوم شهداء من أجل التحرر الداخلي. يا الهي ..اليوم الخميس حراك الثلاثين من يوليو؟! يجعلنا نتساءل ونبحث هل اباد أمن السلطان كل الشعب أم بقي منهم من ينزل الشارع غد وبعد غد مواصلاً طلب الحرية؟
إن مسالة إعادة تعريف هوية السودان اصبحت إحساس الكثيرين بل كل السودانيين ، بل هي مثل التوبة الى الله وتصحيح عقيدة الايمان. صحيح أن مقال الكاتب فضيلي ليس بجديد فقد قالها من قبل الباحث الباقر العفيف الرباطابي الجعلي واصفاً حال السودانيون ” سود بثقافة بيضاء” ويقصد العربية رافضاً الانتساب لجده العباس المزعوم تاريخياً ليؤكد أنه نوبي. كما قال هذا الكلام كل من فرانسيس دينج إبن ابيى، وجون قرنق القائد المغدور به فكلاهما طالب “بالسودانوية SUDANISM” وكذلك جاءت مثل هذه الدعوة أيضاً من أحد منّظري الحركة الشعبية د. ابكر أدم اسماعيل وكل له منهجه ورؤاه ومنطلقاته ونحترم ذلك.
شكراً لكل من ظل ينقش على الحجر ليذكرنا بهويتنا ويساعدنا على تحرير أنفسنا من الاوهام وصولاً الى الحقيقة والمصارحة وفي هذا نؤكد أننا لن نكون إلا سودانيون بإسلامنا ومسيحيتنا وكجورنا وكل معتقداتنا البدائية والقرآن الكريم يقول ” لست عليهم بمُصيطر … الاية (22) سورة الغاشية .ولن نتسور الاسوار بحثاً عن ماض هو ليس لنا ولن نهدم المعبد القائم بما فيه ولكن فلتتعدد الوسائل القائمة على التراضي والسلام واحترام الذات..والتحية مرة أخرى لأخي الكريم فضيلي جماع ولآخرين في سعيهم وحرصهم على اعادة بناء سودان أصيل بلا مغالاة أو لا انتصارأ لضيق يمكن أن نبقيه واسعاً يسعنا جميعاً ودام وطننا واسعنا لابنائه جميعاً بل يمكن أن يستضيف آخرين.