يبدو السودان هشًا ومستضعفًا هذه الأيام بشكل غير مسبوق، وهذا ما أتاح استباحته من الجيران، فوجدنا هجومًا من دول مجاورة على المواطنين الأبرياء وسقوط ضحايا، وكان أقصى رد فعل هو التجييش الحنجوري، والإدانات التي لا تقتل ذبابة، ومحاولة دغدغة العواطف، والظهور بمظهر من يحمون العرين.
وهذه الهشاشة والاستهانة سببهما الوضع الداخلي الهش، الذي تسبب فيه انقلاب 24 أكتوبر 2021م، الذي أوقف التحول الديمقراطي المحكوم بوثيقة دستورية، مهما قيل عن ثقوبها، إلا أنها كانت تمثل مرجعية يُعتد بها، ويمكن تقييمها ومراجعتها بأسلوب حضاري يليق بثورة عظيمة ممهورة بدماء الشهداء الأطهار، الذين استرخصوا المهج والأرواح في سبيل أن ينهض وطنهم، ليحتل المكانة التي تليق بشعب معلم، وقف العالم مندهشًا، ومعجبًا، ومحترمًا، ومقدرًا ما لديه من عزيمة وإصرار عظيمين.
ومما يثير الأسى والحزن أن يكون من يقبضون على السلطة بهذا الاستهتار والتجاهل لآلام الشعب وأشواقه، ولا أدل على ذلك من محاولتهم تصدير الجهلة وأهل المصالح الضيقة والانتهازيين في المشهد السياسي، ليكونوا مطية لهم، بإيهام العالم الخارجي بأن هؤلاء هم أهل المصلحة، الذين قصدهم ممثل البعثة الأممية في مبادرته.
ولم يأت الانقلابيون بجديد، إذ ساروا على درب الإنقاذ، الذي ظل حتى آخر رمق فيه يستعصم بالإدارات الأهلية، والطرق الصوفية، فكانت الحوليات آخر مسرح رقص عليه الرئيس المخلوع عمر البشير، وقد وجد وهو في طريقه إليها جموع الشعب تصطف في الشوارع معترضة مواكبه، إلا أنّه توهم أنه سيجد في أحضان من يحملون لافتات تلك الإدارات والطرق من دون أن يمثلوها ملاذًا آمنًا.
وتوالت مظاهر حشد أولئك سواء في معرض الخرطوم الدولي، أم قاعة الصداقة، أم حول القصر، أو في الموائد العامرة في البيوت والقصور والساحات، حتى توهم كثيرون منهم أنهم امتلكوا شارعًا يوازي الشارع الحقيقي لجموع الشعب السوداني على اختلافه، غير أنه سرعان ما يأتيهم الرد من الشعب الهادر، ليتواروا وهم يجرون أذيال الخيبة، وقد أضاعوا الأموال والآمال.
لكن لا يمل هؤلاء، وخصوصاً وقد أيقظوا أحلام الانتهازيين من أهل الإنقاذ، باستعانتهم به في إدارة شؤون البلاد، بعد أن أحجم الشرفاء، لتداعب أخيلتهم أوهام الالتفاف على الشارع، بخلق حاضنة تقنع العالم الخارجي قبل الشعب السوداني أن لديهم ظهيرًا، إلا أنهم يستيقظون على واقع مر، ومليونيات تؤكد أن هذا الشعب كاره لهم، ولا يمكنهم تزييف إرادته.
وما مبادرة الشيخ الطيب الجد الخاوية المضمون، إلا تأكيد لمحاولة الإيهام، واستمرار الاستهتار بأهداف الثورة السودانية العظيمة؛ لكونها تأتي من رجل إنقاذي بجدارة وقف مؤيدًا ترشيح الرئيس المخلوع عمر البشير لرئاسة الجمهورية، وخرج متظاهرًا لإسقاط حكومة الدكتور عبدالله حمدوك، إلى جانب أن الزج بالطرق الصوفية في خضم السياسية هو أسلوب المؤتمر الوطني، الذي تلاعب بها وبالإدارات الأهلية، وأشعل من خلالها الفتن بين قبائل السودان، وتلك الطرق الصوفية، واتخذها مطية لإطالة أمد حكمه، إلى جانب نشر الجهل وتغبيش الدين.
ويأتي الاعتداء من فلول النظام السابق على ورشة الدستور التي أقامتها اللجنة التسييرية لنقابة المحامين بدارها بالعمارات دليلاً على الاستقواء بها في مواجهة الشارع، والشرفاء الذين ينشرون الوعي بين المواطنين، حتى يظلوا يعضون بالنواجز على أهداف ثورتهم.
هذا الاستهتار بآمال الشعب وأشواقهم في حياة كريمة لن يؤدّي إلا إلى المزيد من الإصرار على بلوغ النهايات السعيدة مهما كلف الأمر، لتكون مزبلة التاريخ هي المكان الطبيعي لمن يقفون ضد إرادته.