السودان في طليعة الأقطار العربية والإفريقية المُدشّنة للعمل النقابي، وقد رفد بلدان المنطقة والإقليم بكادره الإذاعي والتلفزيوني الذي ترك بصمته الواضحة بالمؤسسات الإعلامية والصحفية لتلك البلدان، وحيثما اتجهنا نلمس الوجود الصحفي والإعلامي السوداني الذي كان في يوم من الأيام حائزاً على ميزة الجودة، وفي تلك الأزمنة عُرفت الشخصية السودانية عموماً بالاستنارة والإلمام بالمعارف والريادة التوعوية، فلقد قاتلت قبيلة الصحفيين أيما قتال ووقفت بكل جرأة وتفاني في وجه سطوة الدكتاتوريات العسكرية الباطشة، وما زالت، فقدمت الشهداء والمعتقلين وتشردت أعداد قديرة ومقتدرة من الصحفيين والصحفيات جراء التنكيل وتكميم الأفواه ومحاولات إيقاف تدفق مداد أقلامها، فمنذ أكثر من ثلاثين عاماً لم تشهد ساحة العمل النقابي حراكاً ديمقراطياً كهذا الحراك الانتخابي، ولكي يجيّر النظام (البائد) عمل النقابات لصالح مشروعه، حوّل هذه النقابات لاتحادات داجنة من بينها نقابة الصحفيين السودانيين، ثم افرغ الغث من كادره فيها وجاء بالاتحاد الذي أذل المهنة واحتقر الممتهنين لها، وأمسى الصحفي في زمان الظلام الانقاذي البائس متسولاً يطرق أبواب المسؤولين الحكوميين ليتفضلوا عليه، وما ظاهرة (الظرف) الذي يُهب للصحفي بعد نهاية كل فعالية يحضرها دستوري، إلّا واحدة من هذه المظاهر والسلوكيات الداجنة، ومن بين زخم تكالب المتصيحفين هنالك أقلام وطنية راكزة شغلت الساحة فلم تهن ولم تستسلم ولم تخنع.
نأمل في أن تخرج إلينا انتخابات نقابة الصحفيين السودانيين بتمثيل معتبر للمرأة، فقد شهد عالم صاحبة الجلالة في ذلك الزمان الغيهب بروز كنداكات صحفيات لا يشق لهن غبار، تفانين في خدمة القضية الوطنية وعلى إثر ذلك تعرضن للضرب والتعذيب والاعتقال والسحل والإساءة وإشانة السمعة واغتيال الشخصية، فالأمل الذي يحدونا كبير لو اعتلت هرم النقابة إحدى الصحفيات القديرات والجديرات بهذا الموقع، حتى يتم تقديم نموذج جديد يتوافق مع موجهات ثورة ديسمبر المجيدة، بأن تزال وتفكك معاقل السطوة الذكورية التي هي الأخرى كانت آفة من أكبر آفات عصور الانحطاط والظلام الاسلاموي، وبكل التأكيد سيكون ممثلو هذه النقابة المنتخبون مشكلون للون الطيف السياسي العريض، ومن المتوقع أيضاً أن تكون نسبة المستقلين كبيرة لاعتبارات الترهل الذي ضرب كثير من الكيانات، نتيجة للمواقف الرمادية لكثير من الأحزاب تجاه القضايا العامة التي لا تقبل القسمة على إثنين، ما أدى لاتخاذ الأقلام الوطنية المتجرّدة موقف الحياد السياسي والتضامن مع الشارع النابض بالحيوية والنشاط، فمن نفحات الديمقراطية أن يجد كل مختلف مكانه مع الجماعة، وهذه الانتخابات النقابية سوف لن تثلج صدور القوم الشموليين غير المؤمنين بالتداول السلمي للسطة، حتى ولوكانت سلطة لإدارة (دونكي) في قرية نائية بكردفان، وعلى درب الديمقراطية ستسير خطى النقابات الفئوية والمهنية الأخرى.
إن تدشين انتخابات نقابة الصحفيين السودانيين اليوم يرسّخ لممارسة أول عملية ديمقراطية من نوعها في البلاد، بعد إسقاط الرئيس المخلوع، وقد شقت طريقها بين الأشواك والألغام والفخاخ المنصوبة من قبل بقايا الفلول، وتذكرون ذلك اليوم الذي هجم فيه المعتوهون على خيمة الصحفيين المستقبلة للمبعوث الأممي، فظهرت البلطجة التي لا تتناسب مع من يتخذ من القلم سلاحاً، فترميم البيت الصحفي من بعد زوال الغُمّة لن يتم من دون تقديم القرابين والأثمان الباهظة، لأن هدم صرح الدكتاتورية يبدأ بتشييد صرح الكلمة الحرة، وقيمة الحرية في العموم غالية ونفيسة لن تُنال إلّا بالتضحيات الجسام والمجهودات العظام، وفي ظل نظام الحكم الإنقلابي والشمولي سوف تتوالى الخطط والبرامج المغرضة، الهادفة إلى تكسير مجاديف مركب السلطة الرابعة، فالسلطة العسكرية لا تعترف بأي سلطة أخرى غيرها، كما قال ذلك الجنرال والطاغية الأوروبي المشهور (كلما سمعت مثقفاً يثرثر تحسست مسدسي)، فمعارك هذه الحساسية المفرطة بين العسكريين والمستنيرين باقية ومستمرة إلى أن تُدك عروش الطغاة ومساعديهم، ولا شك في أن هذا الانجاز المستحق لهؤلاء الجنود المتسلحين بسلاح القلم سيثير حفيظة من لا يؤمن بالقلم، ونُصحُنا لمن يتقلدون مهام هذا الجسم الشرعي الحديث الولادة، أنهم سيواجهون بحرب ضروس لا رحمة فيها ولا رأفة، فما عليهم إلّا أن يضعوا نصب أعينهم أولوية ترسيخ معاني الديمقراطية والحرية والسلام والعدالة.
اسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com
27 اغسطس 2022