الجزيرة كلها أهل، ارتبطوا ببعضهم البعض منذ سنوات طويلة . لا إحساس بالقبلية ، ولا فرق بين الناس ، ولا إحساس بالفوقية والدونية ، ولا توجد طبقات ، فالثقافة موحّدة ، والانتماء للتراب والوطن .
امتداد المناقل نشأ في العام 1959 وزرع أول مرة في 1960 ، وكان أهل المناقل يرحلون إلى مشروع الجزيرة ( المرحلة الأولى ) في مواسم كثيرة ليعملوا هناك كعمالة زراعية . وفي الغالب يعملون مع أقاربهم أو يرتبطون بعلاقات مصاهرة أو علاقات صداقة ومعرفة عميقة وقديمة . والغالب من أهل القرى يعرفون بعضهم البعض ، وإن لم تتوفر معرفة مباشرة فهي تتم عبر آخرين من تلك الجهة أو غيرها يعانون من شح في المياه . ففي منطقة معتوق لا توجد خيران أو آبار عذبة ، فقط يوجد ( عِد ) ، وهو عبارة عن آبار قصيرة يطلق عليها اسم ( جمّام ). فيضطر السكان للنزوح بعد حصاد زراعتهم ( الدرت ) إلى الجزيرة وكان يطلق عليها اسم ( الباجور) . فيسوقون مواشيهم ويغلقون بيوتهم ويتوجهون صوب الجزيرة ، ويلتحقون بالعمل في جني القطن ولا يكتفون بذلك بل يمددون رحلتهم حتى قلع القطن وحرقه ونظافة الحواشات . وفي كل عام في ذات التوقيت تستأجر مجموعة من الأسر لوري وتشحن عفشها الضروري ، ويركب كبار السن والنساء والأطفال ، ويسوق الشباب المواشي من قراهم حتى يصلوا بها إلى هدفهم . فهي رحلة سنوية في توقيت محدد تماما كترحال مناطق الرعي في كردفان ودارفور .
ارتبط بعض أهل عجوبة بقرية شلعوها الجعليين ، فكانوا ينزلون عندهم ويعدّون بيوتا مؤقتة من قصب الذرة ، ويبدأون بالعمل في جني القطن ، ويكملون الموسم كله حتى يأتيهم من يخبرهم أن الأمطار بدأت بالرشوش في قراهم ، فيعودون ليزرعوا في موسم الخريف زراعة مطرية ، ويكررون دورة الرحيل كل مرة . ويمثل الباجور لأهلنا مرعى جيد لمواشيهم ، ويضمنون مياه الشرب طيلة فترة الصيف .
نشأت علاقات اجتماعية عديدة من هذا الترحال السنوي بين أهلنا من غرب الجزيرة وأهلنا في الباجور . فجدة أبي تنتمي لقرية ود ربيعة وهي ثمر الجنة بنت عبد الرحمن وتنتمي لقبيلة الكواهلة . وهناك أسر عديدة قامت بينها مصاهرات في منطقة 99 ود النعيم ، فبعض أهلنا في حاج النور والشايقاب والنويلة والرضمة وود الضو العركيين، وكل المنطقة يعرفون أهلنا معرفة تامة . ولا تحتاج أن تنزل عندهم ضيفا بل تدخل عليهم كواحد من الأسرة .
ولابد أن نذكر بعض الشخصيات في شلعوها الجعليين ،والذين كان لهم أثر في حياتنا وحياة آبائنا . فقد قامت علاقة وثيقة جدا بيننا وبين ( جدنا ) يوسف ود بخيت ، وهو كما قيل لنا عركي متزوج من الجعليين. وقد ولدت أنا شخصيا في قرية شلعوها الجعليين ، وكنت أتردد عليها كثيرا في المناسبات وبلا مناسبة ، وكان الجد يوسف يعاملنا معاملة خاصة جدا ، ويعتبرنا جزء من أسرته . ولم ينقطع أبدا عن زيارتنا بعد الاستقرار في منطقتنا بعد نشأة امتداد المناقل . وجاء ابنه عبد الله واستلم حواشة في قريتنا ، وبقي معنا لسنوات عديدة. واستمرت العلاقة تتوطد حتى بين الأجيال الجديدة التي لم تشهد هذه الفترة . وهناك شخصيات تركت أثرا كبيرا في الوالد مما جعله يعتبرهم قدوة له ، فكان يتمنى أن يكون مثل جدنا محمد عبد الصادق ، والد الأستاذ المرحوم المحامي عبد الصاق محمد عبد الصادق ، والقاضي عبد الرحمن ، والدكتور عبد الحفيظ الذي عاصرنا في السعودية وكان نعم الصديق . كما نذكر جدنا عبد اللطيف المبارك الرجل الثري المحترم وصاحب التقدير الكبير بين أهله . كان الوالد دائما يحدثنا عن حالة هذين الرجلين ، عن الديوان الواسع ، والجلسة الرائقة ، والدفع بالأولاد للتعليم .
ويتواصل معنا باستمرار الأخ فضل المولى الريح ويمدنا بكل أخبار الأهل في شلعوها الجعليين . كما تواصل معنا قبله عمنا بابكر يوسف بخيت والهادي يوسف بخيت عليهم رحمة الله ، وأبناء عمنا بخيت يوسف بخيت وابنه المحامي محمد بخيت وشقيقته الدكتورة أميرة بخيت. وقد زاملت في حنتوب الأخ المهندس عبد الرحمن عبد اللطيف رحمه الله والذي ساكنني في داخلية الزبير ، وكان يتعامل معي كأحد أقربائه . ونذكر من الذين كانوا لا ينقطعون عنا : العم بابكر ود الحاج ، والعم الريح ود فضل المولى رحمهم الله جميعا ، وما يزال أولادهم على تواصل معنا . ونشأت ملفات عديدة من الذكريات المشتركة ، كلها تراحم ، وتقدير واحترام متبادل .
هؤلاء الناس قدموا لنا الكثير ، وشجعونا وشجعوا آباءنا للدفع بنا إلى التعليم ، وأشعرونا أن هناك علاقات يمكن أن تنشأ بين الناس بدون قرابة ، وربما تكون أقوى من علاقة القرابة .
رحم الله من رحل منهم ، وأمد الله في أعمار الأحياء والأجيال الجديدة ، ولن نتخلى أبدا عن علاقة تمثل قمة الإنسانية ، وسنظل أوفياء لها ونوصي بها الذين ياتون من بعدنا .